حبل القمر السُرّيّ
كتبت: ناد سلام
نبتر اجزاءنا ونكسرها، حتى تصبح حطام بحجم قوالب متراصة كالقبور. أحلام مطحونة ومعبئة في علب حلوى على شكل قلب. لم تكن المواعدة بالأمر السهل، بالنسبة لي إيجاد الحب لم يعد غاية بل وسيلة لإثبات الذات، أنصاف لن تكتمل أبدًا تبحث عن أرباع تفتقر للاكتمال. دائمًا هناك شيء مفقود، وهكذا يصير هذا الافتقار عملية حسابية، فتقحم قلبك فى تطبيقات، وتتنقل به داخل جيوبك حاملًا إياه داخل هاتفك الذكي. أقلعت عن التدخين من جديد وتخلصت من علبة السجائر الأخيرة. مجددًا أترك على سريري جسد تعبره التجارب والنيكوتين وبعض الكحول الردئ
لست حُرًا بعد، ولست حتى سجين؛ أسكن مفاصل باب الزنزانة. نشأت فى بيئة كل ما بها يحصرني فى خيارين، تدين أو كفر، أن تسقط مهشمًا على الأرض أو أن تحلق عاليًا حتى تنسى كيف يكون السير على قدمين. حتى أن معالجي النفسي شخصني بنوع من اضطرابات الشخصية يجعل مشاعري سوداء أو بيضاء. ولكن رغم هذا التطرف فى كل شيء وأخذ الأمور إلى أقصاها لم أكن أتخيل أنه بإمكاني التطرف خارج الحدود المرسومة لي. فأصبح وجهي قطعة نحاس باهتة تعكس كل الألوان باللون الأصفر، خيالاتي السعيدة، كتبي وكتاباتي تقف حدادًا على طير كنته فيما مضى. والجنائز لا تعني الموت دائمًا، فلعلها ولادة جديدة، لعلني أبعث من الشوارع، من قصص الفراق، من دواوين الشعر، من ضحايا التمييز من طيف المطر من ماتبقى مني! ففى كل مرة أشهر بخنوثتي ولاثنائيتي الجندرية بكل صخب وصدام فى وجه المجتمع الذكوري منسجم الجندر، أتطرف عن كل الخطوط الفاصلة وتتذبذب مشاعري، رضاء داخلي يخالطه خوف وحيرة
بعد أن انتهي من تسريح شعري وانتقاء الإكسسوارات المناسبة والتأكد من أنه لا يوجد أحمر شفاة على أسناني، استنشق كل هواء الغرفة فى رئتي عميقًا ومتوترًا قبل أن أنضم إلى باقي من فى السهرة سواء كانوا أصدقاء أو معارف وأفكر بماذا سيظن الجميع بي؟ هل أبدو غريب المنظر؟ هل سيلقي صديقي منسجم الهوية دعابة عن الطريقة التي أعبر بها عن هويتي الجندرية، ومن ثم يتعذر بأنه تأثير الحشيشة من جديد؟ هل سيعاملني ثنائيي الجندر من الأصدقاء كشخص تائه وأقل نضجًا بسبب هويتي؟ هل يجب أن أخفي كويريتي لأبدو أقل غضبًا وحزنًا؟ المخنثون مثلي ليسوا بحاجة للتصريح اللفظي بهوياتهم ولا للخروج من الخزانة فنحن فى الواقع لم نكن داخلها قط. لم أرى رجلًا مغايرًا عليه ان يصرح بغيريته لأنه وببساطة يعتقد أنه الأساس وكل ما حوله فروع ثانوية. وعلى عكسه أنا أحد سكان مدينة الضباب الذين يسيرون بوجوه هجرتها الدهشة والاعتزاز. أكتب ليقرأ حكايتي التائهون الجدد. أخشى أن يكون ألمي نصًّا يحلل وينتقد
ورغم ذلك لا تخلوا حياتنا من اسقاطات الغيريين منسجمي الجندر . حتى داخل مساحتنا يخشى الرجال المثليين أن قبلوني أنني سأمتص المعيارية الغيرية من مثليتهم التي قولبت الحب والجنس فى صورة واحدة واستنسخته. وتخشى المثليات من أنوثتي النابعة من داخل جسد مكسو بالشعر. ما أبشع أن تغترب بعدما ظننت أنك أخيرًا فى موطنك، خدعك الأمل من جديد، تركك منهك بعد هذا السباق الطويل مع ذاتك، عدت من حيث بدأت، وخانتك الخطايا التي صلبت من أجلها. إن إيجاد شركاء الحياة للاثنائيين الجندر ليس بالأمر السهل فى عالم إن لم تخضع المشاعر به إلى مصطلحات وقوالب تُنبذ. إن اللغة أداة ولكن هذا النظام الثنائي صنع منها ديكتاتورًا. ماذا لو لم يعد الكلام كافيًا لتشريح جندري، مخاوفي، وأحلامي؟ وهل تعرف يا حبيبي عدد الرجال الذين أخبروني من قبلك أنهم لم يتخيلوا أنفسهم يومًا ما مع شخصًا مثلي؟ تساؤلات عديدة لا أملك إجابة لها، وكأن الله خلقني بأجنحة ولم يخلق لي سماء، فيربطني بالقمر حبلٌ سُرَّي، ويربطني بنفسي خيط رفيع من الضوء يعبر الوعي والجنون
لم أكن أعلم أن الخنوثة لها مسمى وصفات إلى أن إلتقيت أول متنمر فى صغري. وهكذا أصبحت طريقة مشيي، ضحكتي، وكلامي جسد لغوي. يصبح لعنة تارة ووسيلة تعبير تارة أخرى. موقف سياسي ونشاط حقوقي وقضية رأي عام. أنا لم أختر هذا القتال الأبدي ولم تخترني الهدنة. هويتي الغير قابلة للوصف، التي جعلت منها الكلمات المشحونة بالحرب قفصًا، شتيمة، نضال، صورة، مفتاح، وقيد وتفضيل جنسي. أرفض أن أكون كلمة تخضع لقواعد النحو. مازلت أترنح داخل هذا الزورق الخشبي المتأرجح فوق تعارك الأمواج. أحمل بعضي وبعضي الآخر يغرق فى المحيط. فلا شيء يضاهي وحدة أن يأسرك الكلام، فتطفو فى هذا الفضاء الشاسع من اللامكان، ويغزوك هذا التشوش الذي يدعى جندر، يستنزفك يمتص روحك من خلال قشة رفيعة، ثم يستفرغك قيء على عتبة الهيكل العظمي الذي أسميته جسدك. المرايا تتهمك. تتركك متسائلًا محطمًا مستهلكًا ومشتتًا. تجمع ماتبقى منك وتحمله إلى تبعثر جديد، إلى تعثر جديد، تبحث عن توازنك بين هذا السقوط، تثبت ساقك الأعرج على رصيف رمادي طويل، يأخذك حيث تنتهي كل الحكايات. أنت مستقيم ولكن طريقك أعوج، يقفز بك مرة أخرى من جديد بين الناس والنفايات إلى جانب جميع الأحرار المستعبدين
اليوم لم أعد رجلًا، ولا امرأة، اليوم أنا إنسانٌ خالص، أحد أولئك المخمورين بيوم الدينونة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناد سلام… كاتبة لا ثنائية الجندر