لوريــن
كتبت: نيكول سماحة.
في كوخ عتيق منسي على أطراف المدينة ، كوخ حفرت جدرانه السنوات، فطغت عليه التشققات لتعطيه طابع الشيخوخة، تعرفت هناك على صديقة عابرة مخضرمة بملامح ساكنة هادئة، بعد أن سمعت أهالي المدينة يتحدثون عن قصة الرجل المريض المتشبه بالنساء ، أبى بقلبي إلا أن أذهب للتعرف بشكل أقرب إلى تلك التي تشبهني في رحلة محفوفة بالمخاطر ومن دون علم عائلتي بالأمر.
مشيت من الطريق الفرعي للطريق الرئيسي المؤدي للكوخ، وذلك لأبعد عني الشبهات، ولأنني حينها لم أكن استطع تحمل تهمة أخرى توجه إليّ، لا من عائلة أو أقارب أو من سكان الحي.
كانت العابرة المهجّرة والمهجورة تدعى “لورين”، تكبرني بخمس وعشرين عامًا، وكانت وقتها قد خرجت من المصح العقلي حديثًا. كانت النظرات الأولى بيننا مرتبكة المشاعر، فكانت نظراتي نظرات ترقب تتخللها الدهشة، فـ”لورين” كانت أول عابرة أقابلها، بعد أن خيل لي أنني الوحيدة في المدينة ، صافحتها كمن يلمس مخطوطة نادرة أو تحفة فنية أو خارطة كنز دفين، بينما هي رمقتني بنظرة عادية غير مبالية، تلاها سؤال مباشر مليء بالثقة: “بدك تعرفي صح؟”
في أول وأخر لقاء لي مع أول صديقة عابرة لابد لي أن أذكر حديثها عن ديسفوريا العبور، الذي اعتبره إلى الآن نبع أكيل منه كلما جفت مني الحيل والحلول، وكل ماوجدت نفسي ضائعة في شرود الحياة، يظل حديثها أصدق وأجمل ما سمعت.
بينما كنا نتمشى على الطريق الترابي الطويل ومن حولنا مدى تتخلله البيوت القديمة على مسافات متباعدة والشمس تتحضر للغروب ، قالت لي صديقتي في إجابة شاملة لكل اسئلتي العشوائية الكثيرة والمشتتة التي انهلت عليها بها، والتي تعكس تشوش تفكيري و ضياعي في دوامة إشارات التعجب والاستفهام.
هذا الذي أنت فيه يا صديقتي ليس عيبًا ولا درسًا متأخرًا في الندم، إنه يشبه مرور”نشال” في سوق مكتظة بالشرطة والبصاصين، يريدونك أن تكوني متبلدًا، يريدونك أن تعودي من حيث أتيت، إلى عشرين عاما، حيث كانت تتعامد الشمس على قلبك، فيسجنونك ببضع فصول خفاف، بينما عليكِ أن تسرقي العمر سرقة وتملأين شِوَالك بالسنوات وتحملينها من بلد إلى بلد. وصولك لما ترغبين يعتمد على أوج الحواس وأنت الأن ممحوة تماما، غير موجودة، فراشة في شرنقة تنتظر اللحظة المناسبة لتمزق سجنها لترى بصيص نور وتشم رائحة الريحان، عليك أن تتذوقي المر والحلو معًا، وتسمعي الزيزان في هجير الخوف. لكي تصلي إلى جسدكِ المرغوب، عليكِ أن تستشعري جسدك الحالي المكروه بكل أنية خزفه ، وأن تري بأم عينيك هذا الجسد وهو يتهشم، ثم تشمي رائحة كبدك المحروقة كما ينبغي.الطريق صعبة يا عابرة والبشر من حولك مجانين ومهووسين بعذابك. ستسقطين بلا ريح، ولن تجدي أمامك سوى خيارين: الموت أو الغناء للحرب. وأنتِ كما أرى في عينيكِ لديكِ من الأغاني ما يكفي لتظللي العابرين، قفي هنا، ستعتادك العصافير والعشاق والجسر العتيق ، قفي هنا تمام ( وشدت بيدها على كتفي) وقالت : قدماك من خشب والطريق حريق .
اليوم ( لورين ) غير موجودة ، ماتت وظلت صورتها تقض مضجعي بين حين وحين، ويعصر أضلعي ويحوم على كبدي سؤال حارق يخترق هدوئي كسهم سام ، لماذا؟
لماذا عليّ أن أكون عابرة جدا
لأحتمل رؤية أحلامي وهي تطير كسربٍ من طيور الفلامنغو فوق بحيرة أحزاني؟
لماذا عليّ أن أكون عابرة
حتى ألملم صرّة حسراتي وأمضي وحيدة في هذا الدرب الكئيب
لماذا عليّ أن أكون
لأرى أملي وأنقل حسراتي إلى العالم الذي تمادى بغيّه بعيداً عني؟
لماذا علي أن أنصب جندري خيمةً وأنام تحتها
وأتبلد
أتبلد كثيراً
لاحتمل مجدداً كل هذه الفظاظات والسفالات والبشاعة؟
لماذا عليّ أن….؟
لماذا؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ