دوامات الهوية
كتبت: صوفيا شريف
تحرير: مايا أنور
عندما يتحدث أغلب الأشخاص عن تجارب العابرين والعابرات ومعاناتهم، يضعون صوب أعينهم هدفا معينا ألا وهو إيصال المعلومة وتبسيطها لجمهور من القراء من خارج هذا المجتمع غالبا ما تكون معلوماتهم عن الجندر والهوية بسيطة. أنا لا أجد بالضرورة عيبا في ذلك، فمن المهم وجود خطابات مختلفة تستهدف جمهورا مختلفا من القراء، ولكن ما يؤرقني هو أن يضعنا هذا الخطاب المبسّط في حالة من التلبّك والتناقض فنقع ضحايا لمغازلة المجتمع واستثارة عطفه علي حساب بلورة القضية بكل ما تحويه من جوانب قد تكون صادمة احيانا. لذلك، فأنا شخصيا معنية أكثر بإيصال صوت وتجارب العابرين/ـات أنفسهم/ن كواحدة منهم/ن كما أعيشها وأمر بها.
في الكثير من تلك الخطابات، وخصوصا في بلداننا العربية التي لا تزال تعاني من انغلاق معرفي كبير في كل ما يتعلق بقضايا الجندر والجنسانية، يتم اختزال هويتنا في أننا نساء أو رجال محبوسات/ون في الأجساد الخطأ. أنا لا أري بالضرورة أن هذا الخطاب خاطئ كليا، ولكنني لا أقبله للأضرار التي يُلحقها بنا نفسيا ومعنويا. هذا الخطاب وإن كان مستساغا نسبيا لدى البعض إلا أنه في الحقيقة يعقد الأمور علينا كعابرين وعابرات ويجعلها أكثر صعوبة، حيث أنه يعزز من تلك الهوّة الموجودة بيننا وبين أجسادنا، وبالتالي تتحول هويتنا من هوية ديناميكية يطرأ عليها التغيير حتى تصل للنضج إلى هوية جامدة ثابتة تجعل من حياتنا أكثر ارتباكا. السبب الرئيسي وراء ذلك من وجهة نظري هو الرغبة في أن يلتصق العابرون والعابرات بالمعيارية الغيرية الصارمة ظنا من البعض أن هذا سيضمن لهم قبولا اجتماعيا أكثر وصداما أقل، ولكن في الحقيقة هذا غير مجدٍ. حياتنا كعابرين وعابرات مليئة بالضرورة بالكثير من التصادم مع الذات والمحيط، ولا نستطيع تفادي ذلك أو تجاهله إلا إذا أردنا أن نخلق حول أنفسنا خطابا ركيكا منفصلا عن الواقع لا يعكس الحقيقة ولا يجعل من تجاربنا وأصواتنا طريقا للتغيير.
إذا أردنا أن نتحدث عن الجسد و علاقتنا به فبالطبع هناك شعور كبير لدى الكثير من العابرين والعابرات بالانفصال عن هذا الجسد وعدم الإنتماء إليه. كما لا نستطيع إنكار أنه غالبا ما تكون أجسادنا عائقا أمام تعبيرنا عن ذاتنا وتعايشنا في المجتمع بشكل صحي، و لكننا إذا ما أعدنا التفكير في هذا الشأن سنجد أن الجسد ليس هو العدو وليس من المفترض أن نؤذي علاقتنا بأجسادنا وأن نجعلها أكثر سوءا مما هي عليه، فإن فعلنا ذلك نكون قد خلقنا سجنا جديدا لأنفسنا بأنفسنا.
الهوية كما أفهمها الآن هي أمر معقد ومتداخل، فهي ليست قائمة فقط على علاقة الإنسان بنفسه، بل أيضا علاقته بمحيطه وعلاقة محيطه به. نستطيع القول بأن هنالك نوعان من الهوية؛ الهوية التي يفرضها المجتمع والمحيط على الشخص والتي تكون في الغالب هوية مغلوطة وقمعية، وهوية اخرى ينتمي إليها الشخص ذاتيا. وما بين الهويتين علاقة جدلية طويلة ومشتبكة. ما أخشاه أن نجعل من الهوية الذاتية سجنا شأنها شأن الهوية المغلوطة فقط للتماهي مع المجتمع الأكبر واستثارة عطفه. هذه العلاقة الجدلية بين الهويتين تتجلى في مواضع مختلفة، ولكنها تصبح أكثر وضوحا وبروزا إذا ما تحدثنا عن العابرين والعابرات، حيث نستطيع أن نُلخصها في كلمة واحدة، “الديسفوريا”، أو الانزعاج الجندري.
توجد الديسفوريا على مستويات مختلفة، منها الجسدي ومنها الاجتماعي. الديسفوريا الجسدية هي في الغالب ما يقصده أغلب الأشخاص عند حديثهم عن الديسفوريا في المجمل، وهي ببساطة شعور الإنسان بالاغتراب وعدم الإنسجام داخل جسده وأن جسده لا يعكس حقيقته كما يشعر بها، وبالتالي يلجأ الشخص للعلاج الهرموني والجراحة إذا ما شعر بأهمية ذلك ليشعر بالانسجام والتوافق مع جسده. في الحقيقة، يوجد مستوى آخر للديسفوريا، ولكنه ليس بشهرة الديسفوريا الجسدية وهي الديسفوريا الإجتماعية. في اعتقادي الشخصي ورغم قلة الحديث عن الديسفوريا الاجتماعية، إلا أن عدد من يعانون منها قد يكون غير قليل، فهي ببساطة مشاعر الإنسان تجاه الأدوار الاجتماعية الجندرية المفروضة من المجتمع وعلاقته بها. من الممكن أن يعاني الشخص من الديسفوريا على كلا المستويين، ومن الممكن أن تقتصر معاناته على نوع واحد دون الآخر، ولكن، وفي كل الأحوال، لا يملك أحد أن يملي على شخص آخر مشاعره تجاه ذاته أو أن يحدد له كيف يجب أن يصنّف نفسه.
يسوقنا هذا الى ضرورة استيعاب التطور الذي طرأ على مصطلح “ترانس” في العصر الحديث ليعكس مجالا واسعا من الهويات الجندرية المختلفة بدلا من أن يرتكز فقط على العبور من نوع اجتماعي إلى آخر كما هو الحال في الخطاب الكلاسيكي الذي يسلبنا جزءا كبيرا من تعدديتنا من وجهة نظري.
هذا الموقف ليس نابعاً فقط من أفكار معينة اؤمن بها عن الجندر والهوية، بل هي نتاج صراع شخصي مع هويتي كعابرة. فقد وجدت لفترة طويلة حرجا كبيرا في الظهور والتواجد داخل مجتمعات كثيرة بسبب كوني عابرة لا يتوافق شكلها الخارجي مع تعريفها لنفسها كإمرأة، بالإضافة إلى أنني رفضت الاقتراب من أشخاص كثر فقط لأني كنت أظن أنهم لن يرونني كما أنا. كانت لدي كذلك مشاعر ملتبسة وسلبية تجاه مصطلح “كوير” ورغبة البعض في تعميمه ليكون مصطلحا شاملا لأطياف هذا المجتمع. شعرت بنوع من التهديد وبأني غير كاملة في حد ذاتي كما لو كان ينقصني شيئ ما يجب أن أحصّله لكي يكون لدي الحد الأدنى من الشجاعة والثقة لأخرج من القوقعة وأواجه. كل هذا في الحقيقة كان نابعا من الخوف الناتج عن العلاقة الجدلية بين الهويتين المغلوطة والذاتية والديسفوريا كما تحدثت عنها. هويتي كعابرة لم تتغير، ولكن إدراكي لها هو الذي تغير. فأصبحت أمقت وبشدة هذا التفكير الجامد الذي عانيت منه طويلا، كما أصبحت أمقت وبشدة تلك المعايير التي نضعها وكأنها معايير مقدسة منزلة من السماء، وهذه الوصاية التي يفرضها الكثير من داخل هذا المجتمع وخارجه علينا وعلى أجسادنا واختياراتنا.
هذه الكراهية سببها في الأساس أنني أدركت تماما أن التماهي مع تلك الوصاية والأفكار المسبقة هو أمر سام ومؤذ، وبالتالي رأيت أنه من الضروري خرق تلك الفقاعة السلبية وترك نفسي لأتمايل قليلا وأتصل بذاتي بشكل أعمق دون وجود حاجة ملحة لأن أرضي معايير البعض عني أو أن أغازل عاطفتهم أو قناعاتهم، حينها فقط تكون أي خطوة أتخذها في حياتي نابعة من رغبة صادقة وليس خروجا من صندوق أمقته ولا أرى نفسي فيه لأدخل في صندوق آخر لست أنا من يحدده. كفانا صناديق وخزانات، وإذا كان من الضروري أن يكون هناك إطار معين أو صندوق فلنحدده لأنفسنا بأنفسنا.
نعم، أنا إمرأة … إمرأة عابرة، ولكنني أيضا مختلفة بحكم تجربتي التي تجعل لدي بصمة مميزة وسط النساء. كلما آمنت بذلك زادت ثقتي وإيماني بذاتي وقل ارتباكي تجاه هويتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صوفيا شريف: كاتبة عابرة جندريًا
اللوحة للفنانـ/ـة اللا ثنائيـ/ـة: مي دبور