ترانسات Transat

الجندر جندرنا

تجليات عابرة

رحلة الظل

 

كتبت: نيكول سماحة

 

تحرير: مهى محمد

العمل الفني: نور الجندي

 

السعادة يا صغيري هي ألا تعرف الفرق بين الأشياء، فهناك تكمن تعاسات البشر، يكفي أن تعرف منها ظواهرها فلن تجني من معرفة ماهيتها غير الحزن والكآبة. هذه هي كانت كلمات جدتي لي في محاولة منها لتخفيف ما يسري في كينونتي.

جاوبتها : أنا أشعر يا جدتي بانني مجرد ظل ظاهر، لا أعرف طبيعة الغلاف الذي يغطي حقيقتي إلا إنه الشيء الوحيد الذي يسبب حزني وكآبتي، وربما هذا شيء منذور من تلك التعاسات الكبرى التي تحدثيني عنها، لا تنظري إليّ هكذا، أعلم بأنك تتمنين أن تسكبي الكأس الذي بجوارك في وجهي لتخرسيني،  فللأسف أنت لن تسطيعي فهم كلماتي بسبب المسافة الشاسعة بين الكلام والتجربة، لا أريد أن يصل بي الأمر أن أتمنى لك أن يملأك الشعور بانك ظل، مجرد ظل. وللأسف يا جدتي، وعكس ما تتمنون جميعًا، روحي قلقة، ومرارتي واسعة، وهذا منافٍ تمامًا لاستمرار انطفائي  أمامكم .

في غفلة مني أفقت على بيت وعائلة ونظام عشوائي يحكمني ويحكم الجميع، كان مستحيلًا أن أصدق فكرة العبور، أذعنت للتخلص منها، وخضعت لحكم القدر.  بيتي كان دافئا وأسرتي كبيرة، كنت أنا أصغرهم، ولكن كان كل شيء يخصهم هم لا يخصني أنا. كنت قد قرأت مرة على جدار أصفر: “لا راحة لعابر في بيت”، وعرفت لاحقًا إنه لا راحة لعابر في الطرقات أيضًا. وحين واجهت مصيري عرفت إنه لا راحة لعابر في الدنيا على الإطلاق، ضحكت بمرارة وأفقت على الفور، لا أحد سيعرف لماذا خصنا الخالق بداء الاختلاف. ولن أقص عليكم حجم الأحجار التي ترمى علينا، لا لذنب اقترفناه لكن فقط لمجرد أننا عابرون، ومن هذه القسوة الفجة تكونت لدينا حاسة، حدس،  ففي مقدور أي عابر وبكل سهولة أن يميز الشخص الطيب من حامل الحجارة .


خضت الحرب. التي لم تكن حرب مواجهة مع المجتمع، وإنما هي هروب، ظللت هاربة لأعوام وأعوام، لكي أصل إلى ما أنا عليه الأن، اعتمدت في مسيرتي على الحواس، عقلي يحدد مسارات حياتي، هذا العقل يقود جسدي إلى معاركه الخاسرة، طفت بلدان شتى، حاولت الوفاء لكل جدار قد أواني في رحلة هروبي،  لكل من ألقى إليّ بكسرة خبز، ولكل من نظر إليّ نظرة عطف. كثيرًا ما شعرت بالندم تجاه ما أفعل، وطالما ظللت شعور الندم بفكرة الإيمان، لكنني عرفت في النهاية أن الإيمان الوحيد الذي ينبغي علي أن أؤمن به هو الحظ فقط، وتعلمت كذلك ألا اشتهي أكثر من فتات الخبز. والأن، وأنا بعيدة عن كل الذين كانت لهم سلطة وحصة غالبة في حياتي وجسدي، صرت استطيع أن أكسر نمطية شكلي، بينما جميعهم يشاهدونني من طرف العالم الثاني: الحكومة وعائلتي وسكان الحي ومعلمتي وجارتي اللعينة .

حين قررت أن أبدأ  العبور وحيدة أدركت حاجتي الماسة للتكيف، وألا سوف ألقى نفس المصير الحزين للعابرات الأخريات، استسلمت لبعض المداعبات القذرة، وكثيرا ما ابتسمت حين يسخر أحدهم من مظهري أو صوتي، أما صراخي بعد أي اعتداء جسدي تعرضت له  كان مجرد إثبات وجود لا أكثر ولا أقل.

جربت الحب من طرفي مرات قليلة على عجل، وكان أصل الحب هو المصادفة، ولطالما وقفت بنية جسدي بخشونتها المبالغة بيني وبين الأخرين، كعجوز تفرض نفسها على منتصف العمر، كنت أهرب مسرعة، وكان الأخرين لا يتقربون إليّ، فلا يوجد فتاة في كل تلك البنية الجسدية وذلك الوجه الحاد مقارنة بالأخريات، وأيضا لأنني لا أجيد التمويه، لكني كنت أعرف جيدًا ما يحدث خلفي،  فأغلب الذكور الذين يتفادونني علناً هم أنفسهم يتمنون التقرب إلَي سراً، فواحد منهم ما أن أشتم عطري حتى أغمض عيناه وتنهد بعنف، ولحسن الحظ لم أكن في كل تلك المرات مرتابة ولم يلحظ منهم أحد ملاحظتي، كما أنني بعد كل تلك التجارب معهم تقبلت مظهري العام، وخصوصًا عندما أكون في تجمع “ذكور”.  لقد أيقنت أن جسدي بوضعه هذا هو مسافة الأمان اللازمة بيني وبينهم .

 

والآن فقد ثبتت كل شيء بهدوء هدوء قاتل، من أجل الخطوة الأهم في مسيرة أي عابر/ة، وهي عبور الجسد، والتخلص من دوره المتشكل كسجن، في محاولة لإنهاء رحلة الظل، رغم يقيني بأنه حتى لو تخلصت من جسدي من المستحيل أن يموت تمامًا، كما بالمقابل لا شيء يحيى حياة كاملة، حتى الأوجاع، الشتائم، والكدمات كل ذلك يمكن إعادة طلاؤه وإعادة تشكيله كصلصال، يمكن تثبيته حينًا ومحوه حينًا آخر، وتبقى كارثتي التي سأحملها مع جسدي الجديد أينما ذهبت: ذاكرتي المثقوبة.


وككل شيء تقارب نهايته بالظهور فيسارع لكتابة وصيته، فأنا فضلت أن أكرم جسدي بكتابة وصيته الأخيرة رغم خلافاتي الشخصية معه، ولكنني أحترم خصوصية الجميع  فيه، وأحببت أن أرد لكل ذي حق حقه من حصته في هذا الجسد المسكين .

فإذا كان التبرع بالأعضاء شرعيًا وقانونيًا فأنا أوصي بعضوي الذكري إلى الحكومة وجهاز الشرطة، فهم يهتمون بأعضائنا التناسلية وماذا نفعل بها وهل نستخدمها أم لا، ومع من، وأين، وكيف، وهل تتناسب مع شكلنا المعياري النمطي الخارجي أم لا، وهل أصلا شكلنا الخارجي يتناسب معها أم لا!، يهتمون بنا  أكثر من اهتمامهم بالبحث عن المجرمين، حتى إننا نلقى مصير أسوأ من مصير المجرمين في حال ثبت إننا لا نفضل أعضائنا .

أوصي بكل ثيابي الذكورية المتناسقة مع جسدي لجارتي القديمة، إذ طالما شكت لأمي عن سوء ما أرتدي من ثياب ذات ألوان أنثوية مبالغ فيها، ولا أنسى ابتسامتها الخبيثة في وجهي عندما كانت جالسة في صالة منزلنا ورأت أمي قد استخدمت قميصي ذو الألوان الزاهية لمسح طاولة المطبخ، والذي كانت قد شكت لأمي منه عندما رأتني أرتديه في الشارع .

أما عن خشونة جسدي فأفضل أن أهدي شعر جسدي الذي سيتساقط أثر الهرمون إلى معلمتي في المدرسة الابتدائية والتي كانت قد شرحت لي عن الأسباب الكثير التي تمنع الرجل أن يكون عارضة أزياء.

و صوتي المتباين الحدة فأفضل أن أهديه لكل شخص سخر مني عندما كنت أكلمه هاتفيا، والذين جعلوا لدي خوف من الرد على الهاتف.

وكل شيء يخص ملامح وجهي ببؤسها وتجاعيدها ويأسها فأوصي بهم لعائلتي فهم يعرفون جيدا سبب ملامح البؤس و التجاعيد المبكرة.

هذه هي الأشياء التي أوصي بأن ترد إلى أصحابها فأنا لا أملك شيء شخصي في جسدي لاتبرع به ففي حال حياتي نال هؤلاء الحصة الأكبر من هذا الجسد.


بين طريدة وشريدة وتائهة ونزيلة لمصح الأمراض العقلية، كنت كلما أوغل الجميع من حولي بالعمل والجدية كان علي مواصلة اللعب والسخرية، أما بكائي أثر الصدمات الكهربائية فقد كان لهدف واحد، وهو تطهير عيناي من الغبار، لكن أن أبكي من أجل شيء أخر فذلك كان بالنسبة لي هو النضج السخيف. والآن أنا أصبحت مسنة في عمر عبور الجسد الذي بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا، مستحضرًا جسدًا جديدًا لن أسمح لأحد بأن يتحكم به مجددًا. حتى أن بعض العابرين/ات الصغار صاروا يطلبون مني أن أقص عليهم القصص، وهذا ما يجعلني أشعر أنني بلغت من العمر ما يكفي لأقول أنني مسنة ، ومن الوارد فعليا أن أختلق بعض السخريات في قصتي، فالعمود الفقري لقصة عابرة هي السخرية من جدية المعركة، سأحرص أيضا على تفكيك بعض الحقائق، فكلما صارت الحقيقة بحجم قطعة ” البون بون ” يسهل عليهم امتصاصها، سأروي الكثير من السخريات المضحكة، فالأطفال مهما كانت معركتهم جدية وشرسة هم يحبون الضحك واللعب، وهم محقون، فالحياة في حقيقتها الأولى هي محض لعبة مسلية، ولكن أفسدها اللاعبون باختلاق أشكال وقواعد نمطية معيارية للعبة لا يمكن لأحد تخطيها ومحاولة سرقة الفوز، من المثير جدا أن يسألني طفل عابر عن طفولتي، عندها فقط سأكون حقيقية وسوف تغمرني المسرات التي تغادر المرء حين يشب عن الطوق ويبدأ بالتعقل، وأسرد كل شيء دون حساب. كارثة هي أن تتعلم الحساب وتقضي لياليك كلها تعد على الأصابع مخاوفك.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نيكول سماحة: كاتبة عابرة جندريًا

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: