سفر جسدي اللا محدود
كتبـ/ـت: ليل المصلوحي
تحرير: مايا أنور
هناك علاقة بسيطة في الفهم ومعقدة في التفصيل بين جسدي ومحيطي وعالمي المثالي. حكاية عبوري ليست حكاية عبور فعلي من ضفة لأخرى، بل هي محاولة لوجود الذات، فهذا السفر بمثابة عملية معقدة تحتاج لدقة متناهية في التنسيق وقدرة عالية على التحمل والمقاومة. لذا، عبوري الجندري هو رحلة مستمرة في الصعود تكاد تكون رحلة ارتقاء وتوحد من جديد مع جزيئات الذات الأولية، وعبوري ليس عبوراً ثابتاً أو محدداً، بل متحول ومستمر كما لو أنه رحلة استكشاف جديدة لا تتوقف لرغباتي، لأحلامي، لجسدي، وميولي.
منذ الصغر، كانت علاقتي بجسدي علاقة محايدة وعفوية غير منحازة لاتجاه معين، فقد أحببت جسدي كما هو بتفاصيله الدقيقة وببساطته الساذجة، لم أكن أكثرت كثيراً للتقسيمات الجندرية المجتمعية آنذاك، فلم تكن حاضرة بقوة، وبحكم تنشئتي كطفل وحيد، لم ألحظ ثنائية الجندر عن قرب، أو ربما لم ألتفت كثيراً للأمر. غياب الأب وتعامل الأم غير المعياري وغير الثنائي في ذلك السن المبكر ربما مهّد أحياناً لوعي مبكر بالذات، عن جهل منها أو عن وعي، وبخلاف ما آلت إليه الأمور خلال طور نموي وإلى حدود الآن.
انسيابي في تفاصيل جسدي الصغير، تلك التفاصيل المنسابة كأخاديد، هو بمثابة سفر في عمق الذاكرة نحو سن الخامسة، عندما تعرفت لأول مرة على ما يصطلح عليه “الجندر الآخر” عن طريق الصدفة. كان ابن الجيران في نفس سني، وكعادتنا، كنا نلعب عند مدخل البيت، وذات مرة، انتابنا الفضول لمعرفة ما بين فخذينا، أتذكر حينها قهقهاتنا المتواصلة والبريئة وكأننا اكتشفنا سراً خطيراً بإدراكنا للاختلاف البسيط لشكل تلك الأعضاء المخبأة دائماً بين ثنايا أثوابنا، ولكن لم يضع هذا السر حاجزاً أمام صداقتنا، ولم يغير شيئاً في وعيي بذاتي، ولم أدرك فعلا المعيارية الثنائية إلا في مرحلة الإعدادية-الثانوية.
أتذكر أيضاً في المرحلة الابتدائية عندما كنت أظل منفردا في البيت لبعض الوقت، أجرب قمصان أبي القديمة وسترته الفضفاضة وربطات عنقه وأوشحته وأراقب سعادتي برشاقة من خلال انعكاس جسدي الصغير في المرآة؛ وكأنني شخصية تعلو خشبة المسرح وتمثل الدور بكفاءة عالية من غير جهد ولا مبالغة، إلا أنني لم أكن أمثل أو أتظاهر، بل كنت أعبر عن هويتي الجندرية أو شخصيتي اللامعيارية التي تحتمل ما هو أبعد من الثنائية الجندرية: ذكر-أنثى، أنثى-ذكر. هذا التبادل في الأدوار الاجتماعية أمر سليم لا يستدعي الإقصاء ولا التهميش أو الوصم أو تهديد السلامة النفسية والجسدية، وقد كان لعب الأدوار هذا هو سري الصغير الذي لم أصارح به أحداً لأنني كنت أخاف من المحاكمة والمحاسبة والتوبيخ، أو الاتهام بالجنون، ومن أنواع العقاب التي قد تطالني، لكنني لم أكن أعي آنذاك لماذا لم أستطع أن أخبر أحداً بسري.
استمرت الحياة وكبرت لأدرك أن لي عالمين، عالم واقعي محض قائم على ثنائية مميتة إقصائية، لا تعترف باحتمالات أخرى للعيش، ثنائية معيارية ونمطية رتيبة تحاكمني بتهمة اختلافي وتحرري الفكري والجسدي وتعاقبني بالرفض والسجن والتمييز، وعالم مثالي كل ما فيه سحري وسريالي جميل، من كل شيء شيئان وأكثر، ألتقي فيه بأشخاص عابرين مثلي، عالم ملون لا يحاكمني، بل يحتضنني بحب ويدعمني، أسمع فيه قهقهات كتلك التي كنت أطلقها وأنا طفل صغير عند اكتشافي لأول سر، عالم أشارك معه آلامي واحتياجاتي، نضحك ونبكي معاً، نكتشف أجسادنا من جديد، ننسق أزيائنا ونشاطر أقداحنا، نبتسم ثم نسأل ما هو لقبك-ي الآن، هو؟ هي؟ همن؟ واسمك، أهو نفسه “ليلى” أم تفضل اسم “ليل”؟ وأصبح عالمي المثالي واقعاً موجوداً، ورحلة عبوري لا زالت مستمرة مرتبطة بكل ما ذكر، تتأرجح في أرجاء الثنائية وما بعدها، تحاول المقاومة والاستمرار والبحث عن الذات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليل المصلوحي: كاتبـ/ـة لا ثنائيـ/ـة الجندر