ترانسات Transat

الجندر جندرنا

قضايا وأخبار تجليات عابرة

الجانب الآخر للنوع

كتبت: مريم شاهين

تحرير: مهى محمد

 

“ما الذي يعنيه أن تكوني امرأة عابرة جنسيا؟!”. . هكذا سألت الطبيبة النفسية بجزع في إحدى المرات، قالت لي بنصف ابتسامة محاولة احتواء توتري “هو أن تشعري في داخلك أنكِ امرأة بغض النظر عن جنسك البيولوجي الذي ولدتي به”. كانت هذه هي الإجابة النموذجية التي اختصرت بها أزمتي الوجودية، والتي تكرر مضمونها بعشرات الصيغ على ألسنة الأطباء والأخصائيين وعلى صفحات الكتب والأبحاث. وقتها كانت هذه الإجابة كافية بالنسبة لي لوضع إطار للأزمة، للفهم. حسنا نحن لدينا محرك سيارة وضع” بالخطأ” في سيارة أخرى والمطلوب هو استبدال السيارة بالموديل المناسب لذات المحرك! رغم سذاجة المثال ولكنه يوضح بشكل مبسط كيف يُطرح الأمر عادة .ولكن بعد فترة يسيره من محاولات المعايشة المتحفظة يبدو لي الآن هذا الكلام ركيكا للغاية! ليس لكونه خطأ بل لكونه غير دقيق على الإطلاق. إن العبور الجنسي لا يعني نقل “َوعي الشخص الذي نعرفه” لجسد ملائم له، ومخاطبته بضمير آخر يفضله وحسب. يبدو هذا التصور أشبه بأساطير احتلال الأجساد سواء من قبل الفضائيين أو العفاريت!

لاشك أن وعي الإنسان يتأثر بشكل كبير من خلال مكان ميلاده، عرقه، موقعة الطبقي، دين الأسرة، الأوضاع السياسية إلخ، ولكن الأهم من ذلك ان وعيه يتشكل داخل هذه التقاطعات من خلال زاوية جوهرية وهي “نوعه”. فمن خلال زاوية النوع يتعلم الإنسان الأدوار المتوقعة منه سواء في المجال الخاص أو العام. ومنذ الصغر نتعلم جميعا قواعد النوع الاجتماعي ذات الألوان الزرقاء والزهرية الصارمة التي تساهم في تشكيل عالمنا و وعينا بذاتنا. إن مساحات التفاعل الاجتماعي: إمكانات الاستقلال، الحرية، الاختيار، العمل، تتحدد  مسبقا وفقا “للنوع”. لذلك وإن كنا نتشارك جميعا ذات المنازل والمدارس والجامعات ومقرات العمل، إلا أن لكل منا عالمه، حقيقته، كل حسب نوعه. 

أذكر أني فور علمي بنتيجة تحليل الطبيبة النفسية لي ووصفها حالتي “باضطراب في الهوية الجنسية” أني شعرت بصدمة وإحباط  شديدين. لآخر لحظة كنت أتمنى وجود خطأ ما، يمكن أن يجنبني متاعب وإشكاليات العبور أو المضي قدما في الحياة بعد علمي بحقيقتي. عندما وصلت للمنزل انتابتني حالة من الهم والتفكير،  قمت بعدها للتوضؤ والصلاة رغبة في قليل من الراحة النفسية وطلبا للعون من الله، وقبل أن أبدأ في الصلاة لمع في ذهني سؤال غريب، هل يجوز أن أصلي بشعري الآن؟! هل يحاسبني  الله وفقا لحقيقتي أم وفقا لقراري بالبدأ في العبور الجنسي أم لا؟ انا غير مقتنعة بالحجاب مثل بعض المسلمات ولكني أيضا رأيتهن يرتدين غطاء للرأس عند الصلاة. فهل معنى ذلك أن الصلاة بدون غطاء للرأس حرام لأن الشعر عورة ؟ أم أن ذلك على سبيل الاحترام لله في الصلاة؟  لم تستوقفني من قبل تلك الأسئلة، لقد اكتشفت أن حتى الصلاة لا تخلو من الحسابات والأسئلة المحيرة. 

لا أعتقد أن أي رجل قد اختبر تلك المشاعر المعقدة تجاه جسده وهو يصلي . فبينما يحاسب الرجل على أفعاله فقط، تحاسب المرأة بجانب أفعالها ، على جسدها، صوتها، أمام الله وأمام المجتمع. وإن كان هذا عن الصلاة، فماذا عن شعوري الآن تجاه قضايا مثل التعدد، والميراث، وشهادة الرجل التي تعدل شهادة امرأتين؟ 

هذا فيما يتعلق بالدين، فماذا عن منظومة القيم الاجتماعية؟ على سبيل المثال كيف يجب أن أفكر تجاه فعاليتي الجنسية؟ الموضوع الذي كنت أتحدث عنه بعفوية وبساطة وبشعور طاغي  بالاستحقاق أصبح التعبير عنه الآن ‏أكثر حساسية ومحاطا بسياج من الحسابات الاجتماعية والأخلاقية المعقدة. ماذا عن الموقف من  خيانة الشريك/ة والتي تتحدد عقوبتها وشدة وصمها وفقا “لنوعه” ؟! ماذا عن فرصي في العمل والترقي الوظيفي؟.. غالبا ما يتم التعامل مع تلك الأسئلة البديهية في وقت مبكر بالتبرير إما بأدوات القهر المادية مثل التعنيف اللفظي أو البدني أو الحبس، أو بأدوات القهر المعرفية  كالأدب والسينما وكلا الخطابين الديني،السياسي. ولكن كيف يمكن ابتلاع هذا القهر دفعة واحدة لشخص اختبر الحياة على الجانب الآخر للنوع متمتعا بكل الامتيازات الذكورية حتى تلك التي لم يستوعبها سوى هذه اللحظة. والآن لا يجد  نفسه  يحصل حتى على حزمة الامتيازات الأنثوية النمطية “العادية” -بكل مشاكلها-كباقي النساء. بل وجد نفسه امرأة غير معترف بوجودها أصلا!

وبينما تغلي رأسك بهذه التساؤولات تحاولين البدء في التعايش بهويتك الحقيقية بأكبر قدر متاح من الهدوء والسلام النفسي…غالبا ما تبدأ فترة المعايشة الأولى براحة كبيرة..راحة التخلص من عناء التصنع والادعاء لكونك شخص آخر، راحة أن تكوني على طبيعتك بدون أي إحساس بالذنب أو العار. و رويدا يتسلل إلى داخلك فرح طفولي ورغبه جارفه بالمشاكسة  كلما مرت أًصابعك على الأقمشة الحريرية الناعمة التي طالما حلمت بارتدائها وملائمة ثناياها الفاتنة لجسدك، كلما التقطت أنفك  روائح  العطور النسائية ذات الحضور الفاضح والمستفز داخل غرفتك ، أو كلما سمعتي أحد الأصدقاء يناديك باسمك الجديد/الحقيقي. ولكن عقب تلك الفترة المدهشة المليئة بالتجارب الأولى، المليئة بالاكتشافات التي تناسب طفلة في العاشرة من عمرها وليس لامرأة ثلاثينية ، سرعان ما يتبدد الشعور بالراحة والفرح ويحل بدلا عنهم القلق والتوتر، تلك الأحاسيس التي لن تفارقك لوقت قصير في حياتك الجديدة، فحتى أبسط التصرفات الروتينية البسيطة تغدو الآن عملا شاقا ومرهقا للنفس. حتى باب منزلك الذي عبرتي منه آلاف المرات بشكل روتيني، تريه الآن كبوابة مخيفة  لعالم موازي، وراء هذا الباب لم يعد هناك جيرانك الذين تعرفينهم ولم يعد هناك الشارع الذي تحفظين حفرة ومطباته وبائعيه الجوالين، بل أصبح هناك عالم مختلف تماما وغريبا عنكِ.. أو لنقل في الحقيقة لم يختلف العالم كثيراً عن ما كان عليه ولكن أنت التي اختلفتِ! ولسوف تتعلمين من خلال نظرته إليك كيف يرى العالم المختلفين و يحاسبهم، فإن كان لا يغفر للخارجين عن النص فكيف بالخارجين عن النوع! 

هنا، ومن خلال صورتك المنعكسة في عيون الآخرين تبدأ أزمة جديدة لهويتك. ولكن هذه المرة ليست أزمة هوياتية عن النوع ولكن عن ماهية “الهوية” ذاتها! هل الهوية هي مجموعة الصفات والسمات الجوهرية التي تميزك عن أي شخص آخر في العالم بغض النظر عن نوعك؟ أم أن قرار العبور يعني ميلاد هوية جديدة تماما؟.. هل تواجهين العالم بذاكرة جديدة وعلاقات جديدة كشخص ولد اليوم؟ ولكن أي شخص هذا الذي يولد في الثلاثين من عمره! هل تواجهين أصدقائك وزملائك وأقاربك قائلة ها أنا ذا الشخص الذي كنتم تعرفون؟ ولكن كيف وهم ينكرونك ،بل كيف وانت تنكرين نفسك! 

ولكن الحياة الجديدة ليست سخية لكي تعطي لك كل الوقت الذي تحتاجينه  للإجابة على هذه التساؤلات. وبالتوازي مع أزمة الهوية المركبة، يزداد الشعور بوطأة فقدان الامتيازات الاجتماعية الذكورية  شيئاً فشيئاً. لم يعد المجال العام ملك لكي بعد الآن، لم يعد تواجدك  في الشارع خلال أي وقت من اليوم حق مسلم به،  بل أصبح محاولة ايجاد مساحات آمنة داخل المجال العام هو عنوان المرحلة. لم تعد آرائك المتقاطعة مع المجال العام مهمة للآخرين  بقدر أهمية ملابسك وتفاصيل جسدك، ناهيك عين آرائك في الدين أو السياسة! 

إن انتقالك للجانب الآخر للنوع لم يكن مجرد تعبير بلاغي أو تغيير لضمير مفضل وتجربة تدعوا للاحتفال كما يحلو لبعض الداعمين ‏أن ‏يتصوروا، ولكنه تغيير عميق الأثر من شأنه إجبارك على التعايش بواقع قواعد اجتماعية ودينية وقانونية وسياسية مختلفة عن ما كنت تألفين، كما يجبرك على اختبار الحياة بحقيقة مغايرة تماما. ومن خلال تلك الخبرات اليومية المعاشة كامرأة عابرة  في عالم الرجال/ الأسياد ، الرفاق /الزملاء سابقا ، من خلال الحياة كامرأة في المجال الخاص ثم على استحياء في المجال العام ، تتكون لديك ذاكرة أخرى وصورة مختلفة عن الذات ، ذاكرة هي أسيرة التجربة، وصورة جديدة للذات تتسق مع خيارات لا يمكن للصورة القديمة أن تتسامح معها….لذا يمكن القول إن التعايش  بالهوية المكتشفة/ الحقيقية يفرض وعيا جديدا بالذات وللآخرين وللعالم… حيث تبدو كل الأشياء مختلفة بحق على الجانب الآخر للنوع. و كما أنكِ لا تنزلي ذات النهر مرتين، فأنتِ أيضاً لن تكوني خلال عبورك ذات الشخص مرة أخرى!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مريم شاهين: كاتبة عابرة جندريا

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: