ترانسات Transat

الجندر جندرنا

تجليات عابرة

ناد سلام تكتب: “بروزاك”

كانت عيادة الأمراض النفسية دائرية الشكل فى نهاية ممر طويل، أضواءه مشعة أكثر من اللازم لأعين مرضى القلق والإكتئاب. وقفت أمام موظفة الاستقبال البشوش لأعلنها بوصولي لجلستي مع الطبيب، والتي -ولسبب ما- شعرت بالارتياح الكافي لتشتم المراجعين اللحوحين كثيريِ الأسئلة أمامي، كانت تستغفر، تنظر شذرًا، ومن ثم تبتسم من جديد، وتردد “لحظات ودكتور محمد يكون معاك”. الغرفة مكتظة جدًا على أن تستطيع  دس تعابير وجهها بين الالتفاتة والإيماءة. كيف تفعل ذلك؟ وكيف يمكنني رؤيتها أنا فقط؟ تساءلت

 على الكرسي البلاستيكي أجلس مرة أخرى، هنالك امرأة بجانبي تبدو عليها التعاسة تحدق فى الحائط المقابل وكأنها ترى من خلاله أفق أبعد لا أراه، لم تتوقف عن قضم أظافرها خلال الخمسة عشر دقيقة الماضية. فى هذه الأثناء وقف الطبيب خارجًا فى ربع الغرفة المقابل لمكتبه، كفيه داخل جيوبه، نظرت إليه لوهلة وأنبثق إلى مخيلتي التصويرية أنه سيخرج مسدسًا ينهي به عذاب المنتظرين جمعيًا.

تفضل معي، تبعته دون إجابة، الضوء أصبح خافتًا أكثر أمام المكتب الخشبي والمقاعد الجلدية، كنت قد أخبرته بأني رجل مثلي الميل الجنسي، لا استطيع المخاطرة بإخباره الحقيقة كاملة، سألني حينها “هل أنت سعيد بذلك؟” فأجبته نعم، فقال “إذًا هذه ليست مشكلة”.”

الكذب على المعالجين النفسيين ليس بالأمر الصعب، الخدعة تكمن فى أن تخبره بما يكفي لتحصل على تشخيص مُرضي يمنطق جنونك، ودواء مضاد للكآبة فى أحسن الأحوال، دون إن يزج بك فى المصحة النفسية.

المصح يمثل كابوسي الأكبر، أن تبقى حبيسًا إلى أن يقرر أحدهم أنك لست بالجنون الكافي للبقاء.

صوت القلم على الورقة حاد جدًا كأنه يصرخ فى وجه لونها الأبيض، وهو يكتب قال “يجب إن تزود جرعة العقار حتى تشعر بتحسن”. انتهت مراجعتي الأخيرة معه، بعد أن أكد أني عليلة بعدة اضطرابات نفسية مختلفة. لم أرغب فى إستخدام العقاقير لما يشاع عنها، لكنه كان قد قال لي فى الجلسة الأولى أن حالتي تستدعي التدخل الكيميائي، حتى أصبح سوي العقل. لاحقًا تعلمت أن كلمات مشابهة كصحيح ومستقيم وطبيعي ليست إلا مرادفات للبلادة والانطفاء، استمر على الدواء لتصبح عاقلًا. الاكتئاب، القلق، نوبات الهلع، إضطراب الشخصية الحدية، إضطراب كرب ما بعد الصدمة، كل هذه الكسور ربما تجبرها حبة “الپروزاك” الخضراء، ولكنها أبهتتني حتى أن الاستلقاء على العشب أصبح كالرقود على أرض رخامية باردة، لم يعد جسدي يقشعر لسماع الموسيقى، فأقلعت عن الأدوية رغم أني فى كل مرة أعبر بها الشارع اتساءل: لماذا لا أقف ساكنةً مكاني وأدع السيارات تدهسني؟!، لا أعلم كيف ولكنني أصل إلى الرصيف الآخر دائمًا قبل أن أجد جوابًا، لم أكن خائفة قط مما يدور فى رأسي، نحن لا نولد خائفين، بل نتعلم كيف يكون الخوف ونتشربه حتى تصبح فطرتنا الاختباء. الأفكار الانتحارية، التوتر، والرغبة المستمرة فى إيذاء النفس، ليسوا هم المشكلة، بل العالم نفسه الذي يغذى هذه الوحوش حتى تصبح أكبر، فأبشع، بعد أن خلقها من نطفة التمييز والكراهية. تساءلت بعد السيجارة السابعة: ماذا أريد؟، وأجبت وأنا أشعل الثامنة: أريد أن أصبح حرة، أن لا أخاف بعد الآن أن تشق مشيتي الخنثوية طريقي فى ساحة السوق كنزيف الفجر من خاصرة الظلام، أن أتبضع الفساتين بدلًا من بناطيل “الجينز” المبتذلة، أن اشتري طلاء الأظافر دون أن أدعي أنه هدية لإحداهن، أن ارتدي تنورة دون أن تعرض علي إحدى الصديقات الطرق المثلى للتخلص من شعر الساقين. تردد صوت الطبيب فى رأسي عندما قال ذات مرة: لما لا تخلع قرطيك؟ فنحن على أرض لا يقبل ترابها زراعة البنفسج، لربما تتعلم أن تصبح نخلة، أو شجرة سواك، أي شيء ماعدا الأزهار. أو هكذا سمعته أذني التي تصنع من كل شيء سيناريو مسرحي. فقررت أنني أفضل الموت شنقًا على أن أكون رجلًا نمطيًا مملًا.

 كنت أعرف زهرة تدعى روز، امرأة عابرة تبدو كالغناء فى عينيّ، لها قلب مليء بالحياة كثمرة دراق، وحكاية حزينة كنافذة، كانت جذع شجرة لا يكتب عنها عادة، ابنة لرجل يعمل كمخبر لدى السلطات، يستخدم قبضته للكلام بدلاً من فمه، الكدمات التي كانت تغطي وجهها أحيانًا لم تطغى على جمالها قط، فالنساء الذين ولدن على الجهة المقابلة، لسن كاللاتي يعبرن إليها، فهجرة العبور مضنية، وشاقة، ولا تشبه قافلة رحيل الأخرى. إن الأوراق والقوانين ووصفات الأطباء لا يصنعون البشر. هذا ما خافه المعالج النفسي عندما أخبرته روزا أنها ستعبر بمساعدته أو بدونها، هددها بإبلاغ الشرطة، فكيف سيعمل الأطباء فى عالم لا أوجاع به!. كان ذلك بين عامين ٢٠٠٦ و٢٠٠٧ عندما مرت بأخصائيين نفسيين عدة الذين حذروها من العبور فوصفها البعض ب”الشذوذ الجنسي” و”الانحلال الأخلاقي” أثناء تحرشهم  بها جنسيًا كجزء من “العلاج”!. وحين زج والدها بها فى “مستشفى المجانين” حيث حقنوها بالهرمونات الذكورية، كبلوها على سرير، وصعقت بالكهرباء، حتى بقت رقيدة الفراش أيامًا لا تشعر بالوقت، يوم الجمعة كأنه الثلاثاء، وكأن الزمن أصبح سائلًا، تحاولُ إمساكه فيتسرب بين أصابعها. لا يسمح لها بأن تستحم إلا أمام الحراس الذين كانوا يستبيحون جسدها، يهينونه، يرغبونه، ويرفضونه. كل هذا الوجع لم يغيرها، وحدها صلابة المخلوقين من الرياح، تشكل تهديدًا لهذا العالم المعلب المكرر المسلع. قررت بعدها مسايرة السفاحين ذوي المعاطف البيضاء، ليطلقوا سراحها. أنها ستترك البلاد، وكيف لها أن تنتمي لبقعة تراب أنظمتها سمحت بأن تغتصب وتقذف بالحجارة وتصعق وتكاد تقتل بها أكثر من مرة!. إن إحساس الإقصاء الذي يعيشه المغتربين فى وطنهم يفترس كل رغبة فى البقاء. تخيل أن يصبح بيتك كفنًا مطاطيًا يصفعك كل ما حاولت انتزاعه، أن تحدد القضبان الورقية حدودك، وأن تصير يد الطبيب حمى تسري فى عروقك. لم تكن روز الضحية الوحيدة لهذه الممارسات، الكثيرون واجهوا أشكالًا مختلفة من هذا التعذيب، ابتداءًا ببعض حبوب الدواء التي تخمد الرغبة الجنسية، مرورًا بفرض المعتقدات الدينية، واسقاطات أراء الأطباء الشخصية، إلى خلع الأظافر والاغتصاب. اتعجب كيف تعيد هذه السجون التي تفوح منها رائحة المعقم صياغة هذا الامتثال بالبشر، فتتبدل المسميات لتصبح أقل حدة، وكأنه نوع من القتل الصامت، أحد أكثر أشكال الجريمة رعبًا، حيث لا يتسنى للضحايا الصراخ متشبثين بعنق الحياة.

كان ومازال لمؤسسات الصحة النفسية تاريخ طويل من الجرم ضدنا، حيث أن شهادة الطب لا تمنع الآخرين من ازدرائهم المتواصل لنا. بل تمنحهم السلطة لممارسته.  فلا حاجة لأن يحملوا السكاكين التي تخلف فوضى من ورائها، بينما باستطاعتهم كتابة وصفة..  ربما حبة بروزاك.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناد سلام: كاتبة وعابرة لا ثنائية الجندر

اللوحة للفنانـ/ـة اللاثنائيـ/ـة: مي دبور.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: