ترانسات Transat

الجندر جندرنا

قضايا وأخبار تجليات عابرة

رحلة البحث عن الترانس: 2- ديسفوريا اللغة

كتبـ/ـت: خوخة ماكوير

كنت أتصل بأرقام هواتف أركبها عشوائيا… و كنت استمتع حين كان يخاطبني كل من أجاب على اتصالي بصيغة المؤنث، كنت أتعمد الإغراء حين يكون المتحدث رجلا و كان لي اسم مستعار اخترته،
“مهى”… اسم صديقة لي كانت مفعمة بالأنوثة و الدلال. تلك كانت عادتي السرية من سن الخامسة عشر إلى سن السابعة عشر و كغيرها من عاداتي السرية لم يكن لأحد علم بها.

أنا في سن الواحدة و الثلاثين الآن، مع  سيري و تقدمي في هذه الحياة كانت تخفي عنّي ذاكرتي عدة ذكريات ترانسجندرية مقموعة… و ها أنا قد أصبحت أستعيد البعض منها منذ أن صافحت هويتي و عانقتها.

لم يكن إختباري لأنوثتي في كنف الحيطة و النكران بهذه السلاسة التي أسرد بها تلك الذكريات اليوم، و لم يكن اضطراري لاختبار تجارب الأنوثة خلسة بهذه المتعة و التشويق، إنما كنت أخوضها حربا ضروسا قيد الكتمان، فلقد كانت تمزقني الصراعات و التجاذبات بين ذاتي الأنثوية المطحونة الكاظمة للهيجان، التواقة للثوران كحمم تستعر أدنى بركان و بين رغبتي في حفظ الحد الأدنى من الأمن الزائف و ضمان البقاء في كنف المجموعة.

ما أثمن ما كان يقتضيه من أداءات ذلك البقاء وسط المجموعات المشروعة الحاملة و الراعية للثقافات السائدة، ففي مقابل التنعم بالانضواء تحت مظلة تلك الأطرٌ الاجتماعية الشرعية التي لطالما توهم بسراب الأمان الزائف، تفرض تلك الحاضنات الشعبية الضرائب على التواجد في صفوف أسرابها، من تلك الأداءات جزيةٌ و خراج يقدمها الأشخاص اللامعياريين جندريا لرعاة المعايير الجندرية و حُماتها. فإما الذوبان في الكتلة و التوهان مع القطيع أو النفي و المنفى في تمام الغربة و الإنفراد.

كان استخلاصي لتلك الفواتير يعني دفع أبعادي الهوياتية المرفوضة كأضاحي و قرابين و تأدية فروض الطاعة و الولاء للحكم السيس-هيتيرو-معياري الجائر و إنصياعي التام و اللامشروط للشرطنة الجندرية العبثية التي لم تكن فقط لتمحي أبعادًا من هويتي إنما كانت في الواقع تعمل على إلغائي بالكامل. حتى مع تصالحي اليوم مع تلك الجوانب التي كنت أخفيها بالأمس، فلا تزال تجاربي الترانسجندرية مضنية.

فمِن تجاربي الترانسجندرية الغابرة مِن مكالمات هاتفية سرية و ساخنة إلى مخاطباتي اليومية و مداخلاتي الشفاهية المعتادة، مرورا بكتاباتي النسوية الكويرية و الترانسجندرية الهادفة، بقِيَتْ الذات الترانسجندرية بداخلي حبيسة اللغة… اللغة السيس-هيتيرو-معيارية.

دائما ما كنت أعتقد أن لا وجود إلا لما أوجدَتْهُ اللغة، ففي رحلتي للبحث عن الترانس، لطالما كنت أبحث عنّي داخل اللغة، لعلّي إذا إلتقيت بمرادف لي يُعرّفني، يصف شعوري و تجربتي أُكسِبُ حينها وجودي الترانسجدري المهمش إعترافًا و شرعيةً.

أعتبر نفسي من المحظوظات لأني أعاصر معركة تحرر الترانس، حربٌ من إحدى مضاميرها اللغة، حيث تحاول مختلف التجارب الترانسجدرية إفتكاك أو إسترداد مكانة لها داخل الحيّز اللغوي.

و مع التطورات الهامة التي أُحدثت على الصعيد اللغوي و المعرفي للإحتواء و الإعتراف بتجارب الترانس، إلا أن معضلتي تبقى قائمة الذات كصاحبة تجارب ترانسجندرية لا ثنائية و كوْني ناطقة في ذات الحين باللغة العربية و الفرنسية، حيث أن اللغتان العربية و الفرنسية قطعاً ثنائيّتا الجندرة و لا تفسحان المجال لجندرة محايدة أو لاثنائية على عكس بعض اللغات الأخرى.

لطالما كانت ممارستي للغة و لفعل التواصل مهمةً جدُّ عسيرة، فعدًا عن صوتي الرقيق الذي لا ينسجم مع لحيتي و بقية خصائصي الجسدية “الرجالية”، فإني مثل ما كنت أشقى و مازلت لإخفاء صوتي لما يجلبه لي من متاعب خاصة بأماكن الهيمنة السيسجندرية غير الآمنة، فإني كذلك أشقى في صياغة تجاربي و أفكاري الترانسجندرية خاصة اللاثنائية منها كتابةً و قولاً.

حين عدت بذاكرتي أو حين عادت هي بي لفترات غابرة، حيث كنت أحيى حياتين منفصلتين، أكثر انفصاما و ازدواجية من الآن، حياة علنية ألتزم فيها بما أستطعت إليه سبيلا من الفروض السيسجندرية المجحفة و القسرية و الفاشية، و حياةً في غاية السرية أختبر فيها تجارب ترانسجندرية متقطعة و مرتعشة تحت طائلة الذعر الشديد من خطر الإنكشاف.

اكتشفت حين عودتي لذكريات الزمن الغابر أن تجربتي الترانسجدرية في إطار استعمالي للغة كانت و لا تزال حقل استكشاف و اختبارٍ للبدائل اللغوية المتاحة للإفلات من الجندرة الثنائية أو لتبنّي بعض الحيادية الجندرية.

حين كان يقتضي مني التعبير جندرتي أي جندرة المتكلم “أنا” لم أكن أرتاح لاستعمالي صيغ التذكير في توصيفي لذاتي المجندرة تلك، و في نفس الوقت لم يكن أبدا باستطاعتي تأنيثها أي تأنيثي لغويا إلا من ما لا يزيد عن الخمس أو الست سنوات أي منذ تحيّنَتْ لي فرصة الإفصاح عن هويتي الجندرية و كان ذلك في سن السادسة و العشرين.

لم يكن من السلس و البديهي ارتدائي لصيغ التأنيث حتى أثناء تفاعلاتي الاجتماعية الترانسجندرية المغلقة و التي كانت تقتصر على مكالمات هاتفية سرية و ساخنة مع الأغراب من الرجال، فقد كانت تقتضي مني سلاسة الانتقال من وضع اللاتأنيث العلني إلى وضع التأنيث السري فصاحة و سرعة بديهة لا تتأتى إلا بتكثيف التمرينات الأدائية الشفاهية.

هاتان الحياتان العسيرتان جعلتا مني أطوّر تلقائيا أسلوبًا لغويّا شاقّا يمنحني بعض المرونة في الانتقال بين الحياتين؛ الحياة الترانسجندرية الهاتفية السرية و حياة اللاتأنيث العلنية.

كنت أتجنب قدر الإمكان الصيغ المجندرة، كان ذلك خوفا من إنزلاق صيغ المذكر -الملتصقة بي- إلى محادثاتي الترانسجندرية الهاتفية، كان أيضا خوفا من أن يتسلل اعتيادي على التأنيث لحياة اللاتأنيث العلنية بالخطأ، كنت أبحث عفويا عن بدائل تغنيني عن النعوت المجندرة والأوصاف وتجعلني أفلت من الجندرة في تصريف الأفعال، كاستخدام “لقد فعلت”، “كنت قد فعلت”، “كنت بصدد الفعل” و غيرها من الصياغات المحايدة عوض اللجوء لاستعمال “أنا فاعل/ة” “منفعل/ة”…إلخ.

فإذا ما سألني أحدهم عن قوامي لم أكن عادة لأجيب بأني نحيفة أو ممتلئة، كنت لأجيب بأن قوامي نحيف أو ممتلئ أو بأني أزن عددا من الكيلوغرامات.

كانت العديد من التراكيب التي كنت أصوغها في الإبان لتبدو غريبة أو مستهجنة للبعض، لكني أعتقد الآن أن مع انقضاء ما يزيد عن الخمسة عشر عاما على هذه التجربة اللغوية المرهقة و الشاقة، أن على بُعد عدة سنوات من تطويري لهذا الأسلوب قد اعتاد البعض على تراكيبي التي لا تستقيم لغويا، و لكني لا أزال من جراء هذه التجربة اللغوية المضنية أعاني من فترات الصمت التي تتخلل خطابي و من التأتأة وأعطاب التواصل وإخفاقاتي المتعددة في تمرير الرسائل و المعلومات إلى حد امتناعي عن الكلام عديد المرات نتيجة المشقة و القلق الدائم الذي يصاحب استعمالي للغة.

كانت أستاذتي و صديقتي “سنية” قد توجهت لي ذات مرة بملاحظة جعلتني أفكّر مليّا، قالت لي ذات يوم : “أنت تستغرق وقتاً في الرد، أشعر أنك تفكر مليّا قبل صياغة الإجابات مما قد يحد من عفويتك في التعبير”.

فعلا، أنا استغرق وقتا إضافيّا عن بقية الكائنات الاجتماعية و أبذل جهدا مرهقا لأني أُعِدُّ جُملي و خطابي مسبقاً كلما تطلب مني الأمر تعبيرا لغويا، ذلك أن اللغة العربية و الفرنسية التي أتحدثها و أفكر من خلالها لم تمنحاني رفاهة التعبير عن ذاتي و أفكاري و لم توفرا لي الأدوات التي تمكنني من وصفي و من وصف تجاربي الترانسجندرية اللاثنائية أو المحايدة جندريا.

فإذا كنت سيسجندريا أو ثنائيا و تقرؤني، ربما سيجعلك حديثي هذا تنتبه إلى أن اللغة إذا ما وسعت أبعادك الجندرية فهي لا تتسع بالضرورة لبقية الطيف الجندري، و لربما أنك على خط سير الحياة تفوقني بخطوات، منها لغةٌ تحتضن هويتك  وتنطق بثنائيّتك وتؤكد علوية سيسجندريّتك، أما في المقابل فهي تلغي تجاربي الترانسجدرية اللاثنائية و تمحيها، كما إنّي اتصارع في حربٍ دائمة على اللغة لانتزاعي اعترافًا منها بمجرد ماهيتي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خوخة ماكوير.. كاتـ/ـبة وعابر/ة لا ثنائيـ/ـة الجندر

الصورة المرفقة تيبوغرافيا من تصميم الكاتبـ/ـة

تعليق واحد

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: