بقعة حبر على حافة الورقة
كتبت: ناد سلام
تحرير: مهى محمد
العمل الفني للفنانـ/ـة: سازو
مخاوفي حقيقية أكثر من اللازم، أكثر من تصبح إلهامًا، وهي ليست وسيلة جيدة لبعث الأمل والبروباغندا. لا تخبرني كم أنا قويـ/ـة فقط لتتجنب الاعتراف بأنني بمفردي. إن اختبار سن الشباب للا ثنائية الجندر يكاد يكون مغامرة خيالية محفوفة بالمخاطر، مغامرة من عالم آخر لا يرى على شاشات التلفاز ولا يقرأ في صفحات الكتب. فى عشيرنيات العمر أقف شاهدة على حياتي وكأنني أراها من أعلى، تنتابني التساؤلات والدهشة، وكأن كل يوم ظننت أنه لن ينتهي، وكل صباح ظننت أنه لن يحين، يصبح مجرد سرد ميلودرامي سريالي، انتقده دائمًا، فهل يجوز لسطورٍ لم تكتب بعد أن تصرخ فى وجه الراوي؟ هل من العدل أن أصدق أنني نجوت من الغرق في حين يتقاذفني المد والجزر وأنا على بر اليابسة؟
لطالما حلمت كطفلـ/ـة بأن تجدل لي أمي شعري، لكنه كان قصيرًا جدًا على أن يصبح جديلة، ففى سن السادسة سجلني والدي للمرحلة الإبتدائية من التعليم، حيث طلب منه مدير المدرسة أن أحلق رأسي، كنت صغير/ة جدًا على أن أفهم لماذا يطلب منَا كأطفال أن نكون شبه صلعًا حتى نحصل على الكتب الدراسية فى المقابل، استمر الحال على ذلك للأثني عشرة سنة الدراسية التي تلت تلك السنة، لقد كان شكلًا من أشكال المقايضة، أن أكون بشكل معين ينمطني كفتى كي أحصل على التعليم، للأسف هذه المقايضات لم تنتهي أبدًا، فالشارع قايض سعادتي بأماني، وعائلتي قايضت خنوثتي بحبهم المشروط، والحكومة قايضت حريتي بخوف جدران المعتقل الطويلة، وكوابيس أخرى تيقظني فى منتصف الليل.
فى المرحلة الثانوية عندما كنت فى سنتي الدراسية الأخيرة، فى سن الثامنة عشر، كان قلبي لا يزال ينبض بالأمل، سعيًا إلى واقع مليء بالاحتمالات، إلى أي طريق يأخذني بعيدًا عن الوجهات التي فرض علي السير إليها، إلى أي منعطفات تأخذني لعالم آخر أشكله بنفسي. لكنني كنت أدرس فى مدرسة مخصصة للبنين فقط، مليئة بالمتنمرين والمتحرشين جنسيًا الذين يرغبونني ثم ينبذونني، كانت مراهقتي تجربة مضنية، ظللت اتنقل من مدرسة إلى أخرى لأنني لم أكن قادر/ة على الانسجام، وفى كل مرة كنت أختلق عذرًا جديدًا للرحيل.
كنت ساذجـ/ـة حين ظننت أن التنمر سيتوقف عندما أصبح راشد/ة، ظننت أنني سوف أملك هذا الامتياز يومًا. فلم يكن العنف المبني على أسس جندرية منطقيًا بالنسبة إليَ كأي شكل آخر من أشكال العنف، كان مثيرًا لدهشتي كيف أن رجلًا أو امرأة قد يرياني فيمتلئا بالغضب، ويقررا أنهما يتوجب عليهما أذيتي حتى يستطيعا أن يتعاملا مع هذه الحيرة التي يشعلها سؤال: “هل أنت ذكر أم أنثى؟” السؤال يقصيني ولا يعتبرني إجابة ممكنة منذ البداية، فيقتضي بالتالي محوي، ولكنني مع ذلك أبقى كبقعة حبر صغيرة على حافة الورقة، أنا لم اختر أن أشع كالشمس فى وسط الزحام قط.
لكن تلك الجراح ليست هي ما أعجز عن تحمله، بل القلق، القلق الذي يرافق حقيقة أنني عابر/ة لا ثنائيـ/ـة الجندر، لا نمطيـ/ـة التعبير الجندري، مسجلـ/ـة “ذكرًا” عند الولادة، لا يزول أبدًا ولو لمرة. فعندما أتمشى مع صديق بينما يخبرني عن آخر تجاربه الجنسية على “جريندر” لا أنصت غالبًا إليه، بينما أنصت للمارة، لنداء الآذان، لأبواق السيارات، لأصوات الباعة الجائلين، ولأصوات جيشٍ كامل يصرخ معلناً الحرب عليَ دون أن أراه! وكأنني يجب علي أن أسمع أكثر مما ينبغي، لأكون متأهبـ/ـة للدفاع عن نفسي. إن قلقي الذي أصبح هو أنا، الذي طالما كان حائط دفاعي الأول، يكاد أن يسحقني بداخله! أحيانًا يجعلني أتمنى لو كان لي عينًا ثالثة في مؤخرة رأسي، حتى لا يباغتني الاعتداء، فيمضي يومي وهو مقدر منذ البداية. إنها ليست مسألة إن كنت سوف أتعرض للترانزفوبويا من المارة أو لا، بل متى سوف يحدث ذلك الأمر؟ الأمر الذي أصبح مسلما به كغروب الشمس، أفكر دائمًا أنه فى أي لحظة قد يصورني أحدهم -كما فعل الكثيرين من قبل- ويجمد خوفي فى صورة تثبت حقيقتي، وكأن الناس يتفاجئون بها لأول مرة، وكأنني لم أوجد قط قبل أن تلتقطني عدسة الكاميرا، ليحتفظوا بصورتي كتذكار أو دعابة يتداولونها بينهم: “لن تصدق ماذا رأيت فى مكان عام”. هذا الحذر الذي يملأني لم يولد من العدم، هذه العشبة السامة لا يتسنى لي انتزاعها بسهولة، فجذورها تمتد عميقًا فى تربة نشأتي فى بيئة أخبرني كل من بها بأنني على غير صواب، بأنني محل وباء. تأصل بي هذا الشعور بالغربة، لا أبالغ حين أقول أنني تعلمت كيف يكون الشعور بالعار عندما تعلمت الكلام، فمنذ سن مبكرة جدًا كعابرات جندريًا يبدأ المجتمع بضخ سموميته فى أوردتنا، فأنا لا أستطيع ألا أشكك بحقيقتي وبقيمتي وبوجودي ذاته، عرفت الشك والوصم قبل أن أعلم كيف تبدو ألوان “علم الفخر”. أنه لمن أحد أشكال العنف التي لا يلقي أحدًا لها بالًا تلك التي تبدأ قبل الخروج من المنزل وقبل التمييز فى الشارع، أنه يتوجب علي أن أعيد النظر دائمًا في كيف سأبدو وكيف سأتحدث وكيف سأتحرك، يُعامل وجودي وحتميته كأدلة جنائية مخلوقة بجسدي لا يتسنى لي استأصالها، فيصبح التعافي أصعب بعد كل تجربة عنيفة أجبرت على أن أخوضها، لأنني أنا ببساطة! وعندما يكون جسدي مثقل بالكدمات والخدوش لا استطيع ألا أنحني، وكأنها ليست على جلدي فقط، بل يكاد أن يكون لها وزنًا يزداد كلما إلتفتَ وتشنج عنقي توترًا، فأشعر أنني لم أنجو بعد.
ولهذا أظل أكتب عن كل ضربة، عن كل كلمة، عن كل تحرش جنسي، عن كل اعتداء، عن كل صورة، وعن كل شيء ترك أثرًا فى روحي إلى اليوم، وبالطبع، عن الغد. لن أسمح لك بأن تطمس ألمي. لطالما أردت أن أتكلم عن نفسي بصيغة البطلـ/ـة التي تخطت كل المصاعب والمخاطر، لكنني لا أفعل، حتى لا أصبح صورة أخرى نمطية، أو قصة مبتذلة كثيرة التكرار، كما أنني أشعر أنها كذبة، ففى كل مرة كسر قلبي سقطت منه شظية، لا يتبقى لي غير الحطام والحكايات المكررة التي تحمل زاوية من الضوء، يستجوبنا انعكاسها. تمنيت أن يكون قلقي من النوع الذي تخدره الأدوية، لكن كيف لمطر أن يطفئ مدنًا اعتادت على الاحتراق؟! نحن نفضل الاستماع لقصص النجاة، لكننا لا نريد أن نعرف ماذا حدث بالفعل، فالحقائق الخام تشكك فى صدق أذن المستمع. اكتب عن الخوف الذي أشعر به بعد زوال الأدرينالين، أنا خائفـ/ـة من الخروج من المنزل، خائفـ/ـة من البحث عن عمل، خائفـ/ـة من كل مرة أقرأ بها أخبار جرائم قتل العابرات جندريًا أنني سوف أكون التاليـ/ـة، خائفـ/ـة من زي رجال الشرطة، خائفـ/ـة من ذكورية أبي، وخائفـ/ـة من أنني قد لا أنجو يومًا.
من جديد أشعر أنني عاريـ/ـة تحت مجهر عندما أصرح أن قصتي ليست مثالًا يحتذى به للنجاة الملهمة التي نفضل سماعها، فحين قطّعت أجنحتي بالسكاكين، ثم لمتني حين نزفت، لم أعلم لماذا ازعجتك فوضى الدماء! ماهو رد الفعل الذي توقعته بعد الطعنات المتتالية؟! إن الخطابات المبهرجة التي تركز وبشكل حصري على الحكايات “الإيجابية” القليلة على الصعيد المحلي والعالمي لا تمنح إلا وهم التقدم والتغيير اللحظي، فتستخدم لإسكات أفواه من لم تطلهم أطواق الإنقاذ، تجربتي وتجارب العابرين/ات جندريًا ليست حدثًا له بداية ونهاية، وليست قصة واحدة مكررة تختصر فى الشعور بالقلق والحزن والفرح، وليست حتى فيلمًا فى هوليوود، هويتي ليست الألم الذي أشعرتني به، بل هي التساؤل: “لماذا فعلت ذلك؟! لماذا؟!” ولأنك خائف جدًا من الإجابة، ولأنه ليس من المتاح لي قول الكثير، فدعني أقلق من منبري هذا، فالوقت يمضي وأنت لم تتحلى بالشجاعة بعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناد سلام: كاتبة لا ثنائية الجندر
🙂