ترانسات Transat

الجندر جندرنا

تقارير وترجمات تاريخ الترانس

التاريخ المنسي للترانس: “مجلة الجنس الثالث”

 

ترجمة: أمينة محمد

تحرير: مايا أنور

 

كتبت هانز هانا بيرج: “اجتاحتني حالة من التردد، عندما تخطيت عتبة الباب”. 

مرتدية فستانا أسودا وقفازات بيضاء ولآلئ رقيقة، بدت هانا كاملة. أثارت اﻹعجاب في الطريق، يسبقها أثر العطر وخشخشة اﻷساور. لكنها كانت قلقة؛ كانت هذه أول مرة تخرج فيها كامرأة.

كتبت هانز هانا عن المناسبة في العدد اﻻفتتاحي لـ “Das 3.Geschlecht” (الجنس الثالث)، على الأرجح أول مجلة في العالم اختصت بشؤون الترانس. صدرت مجلة “الجنس الثالث” ﻷول مرة في برلين عام 1930 في السنوات اﻷخيرة لجمهورية فايمار، وهي التجربة الديمقراطية اﻷلمانية بين الحربين. عندما استولى النازيون على السلطة دمروا دار النشر، وراحت المجلة أدراج النسيان، وأصبح يُشار لأمريكا اليوم على أنها مهد مجلات الترانس. تعيد مكتبة “روزا فينكل” نشر مجلة “الجنس الثالث” ﻹحياء أصوات منسية من ماضي ألمانيا الكويري وتغطية فترة مهمة من تاريخ الترانس.

بداية من القرن الـ 19، ارتبطت ألمانيا ارتباطا وثيقا بالمثلية الجنسية. بالطبع كان هناك أشخاص كويريين في كل أرجاء أوروبا، لكن المفكرين اﻷلمان كانوا اﻷوائل في دراسة الجنسانيات اللا نمطية، وناقشوا حقوق الكويريين على العلن مدشنين حقل علم الجنس. في العقد اﻷول للقرن الـ 20، نُشر أكثر من 1000 عمل عن المثلية في ألمانيا. كما شهد الباحثون الانجليز واليابانيون لعلماء الجنس اﻷلمان بالخبرة، وغالبا ما نشروا أعمالهم في ألمانيا قبل نشرها في بلدانهم.

حينئذ، وصلت جمهورية فايمار ذروة الحداثة، وشهدت اتجاهات جديدة من التحرر اﻻجتماعي والتجريب. عرض فرتز ﻻنج ﻷول مرة فيلمه التعبيري “Metropolis” (المدينة) في 1927 نشر ألفريد دوبلن روايته المبتكرة الغنية بالأحداث “Berlin Alexanderplatz” (برلين أليكساندر بلاتز) في 1929. وفي العام التالي كشفت هانا هوش عن معرض صور من المدرسة الدادائية بعنوان “مارلين”. ومع إعادة اكتشاف صور التعبير الفني التقليدية، بدأ اﻷلمان بمراجعة الجنسانية واﻷدوار الجندرية. يقول المؤرخ كلايتون ويزانت: “ارتبطت ألمانيا في عهد جمهورية فايمار بالتجريب في الجنسانية أكثر من أي مكان آخر”. كانت برلين باﻹجماع عاصمة الكوير في أوروبا. بحلول عام 1900، عاش أكثر من خمسين ألف مثلي ومثلية في برلين، وزارتها أعداد ﻻ تحصى بحثا عن الصداقة والحب والجنس. وفي العام 1923 كانت هناك ما يقرب من 100 حانة تقدم خدماتها للجميع، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، أغنياء وكادحين. أصبحت أندية ليلية مثل “ميكادو” و”الناي الذهبي” و”دوريان جراي” مراكز عالمية، وجذبت عروض الكوير المتقنة اهتمام العالم. وفرت الجمعيات فرص التلاقي والتنظيم السياسي. كما أن الرقابة المتساهلة سمحت بنشر الكثير من المطبوعات من روايات اﻹثارة المثلية ومجلات الكوير وحتى اﻹعلانات الشخصية. استلهم الكاتب اﻹنجليزي كريستوفر إيشوود مسرحيته الغنائية “كباريه” من فترة مكوثه في ألمانيا في- قال كريستوفر ببساطة: “برلين تعني الغلمان”. على نحو مماثل، في 1928، وصف الشاعر و.هـ. أودين برلين بأنها “حلم يقظة اللوطي”. وفي نفس العام، ختمت روث مارجريت رولينغ في دليلها المشهور “المشهد في برلين للمثليات” قائلة: “هنا، بإمكان أي شخص الحصول على سعادته الخاصة، إنهم يقدمون ما يلبي كل اﻷذواق”.

كان الحال مختلفا بالنسبة للترانس. حملت “الجنس الثالث” عنوانا فرعيا “The Transvestites” (المتشبهين). أشار المؤرخ لوري ماروفر أن المصطلح في ذلك الوقت حمل معان مختلفة لفئات مختلفة. كان المتحدثون بالألمانية في مرحلة تطوير لغة نقدية تصف الهويات المعترف بها. صاغ كارل-ماريا كيرتبني مصطلح “homosexual” (المثليين) عام 1869، وفي 1910 ابتدع ماغنوس هيرشفيلد مصطلح “transvestite” (المتشبهين). وصف مصطلح “المتشبهين” كلا من مرتديي زي الجنس المغاير والترانسجندر. وفقا لتقارير شخصية معاصرة، اعتبر عدد من “المتشبهين” أنفسهم مثليين، لكن معظمهم لم يفعلوا ذلك. كما أن العديد منهم ارتدوا ملابس ارتبطت تقليديا بالجنس المغاير فقط في مناسبات خاصة. عاش آخرون بالكامل في النوع المغاير للمحدد لهم عند الوﻻدة. اهتمت الغالبية بالعبور والتزام معايير اﻻحترام  بينما تحداها القليل منهم. كانت عمليات تأكيد الجنس متاحة – وأول عملية من هذا النوع أجريت في 1920 – بلا استغراب – بواسطة جراح ألماني غير مشهور.

من منظور الحاضر، ليس واضحا ما إذا كان من وصفوا أنفسهم كمتشبهين في ألمانيا في الثلاثينيات، ومنهم هانز هانا بيرج، هم في الحقيقة ترانسجندر، ﻻ ثنائيين، متشبهين أو أي شيء آخر تماما. في العدد الأول من الجنس الثالث، أقر د.فيغنر ثراء مصطلح “المتشبهين”، كتب: “كما أن البشر مختلفون في مظهرهم ودوافع سلوكهم، كذلك هم المتشبهون”. كان العديد من الناشطين الكوير في فايمار قلقين من تشتت مجتمع متنوعي الجندر. لم يكن الترانس مرئيين أو منظمين كالمثليين والمثليات. وجد فيردرديك رادزويت رئيس اتحاد حقوق اﻹنسان والناشر للعديد من مجلات الكوير حلا لتبني مجتمع الترانس بإنتاج مجلة “الجنس الثالث”.

حَوَت المجلة مزيجا من المقاﻻت العلمية وقصص الخيال، أعمدة المشورة والسير الذاتية، كمشاركة هانز هانا بيرج المقتبسة في صدر المقال. وصفت هانز هانا كيف ساعدتها صديقة لتحقيق حلمها، وذلك بوضع المكياج، ومنحها اﻷمان وهي تخطو أولى خطواتها للخارج، لينظم حسها الأنثوي إيقاعها. في السينما قدم أحد الرجال مقعدا للسيدة. ولكونها لم تعتد تلك المبادرات اللطيفة، عقد الصمت لسانها. وعندما حاول أحدهم طلبها في موعد غرامي، تمسكت هانز هانا بساعد صديقتها بشدة وتركتها تتولى زمام الحديث. منح التسكع في المدينة مع صديقة داعمة هانز هانا ثقة كبيرة ﻻستكشاف هويتها الجنسية. هدفت مجلة “الجنس الثالث” لعب دور مماثل ببذل النصائح وتعزيز الثقة والتأكيد لقرائها أن بإمكانهم أن يعيشوا الحياة التي يرغبونها بدون أقنعة زائفة.

في الغالب، لم ترتبط الصور التي تخللت كل عدد من أعداد المجلة بالمقاﻻت، كانت صورا احترافية ولقطات صادقة إلتقطها القراء تعكس مدى التنوع في الهويات. بعضها يصور الناس في أزياء رسمية، والآخر يصورهم في أزياء مزركشة بإتقان، كزي كليوباترا. والغالبية العظمى تصورهم في الملابس اليومية العادية. رغم ذلك، اشتركت كل الصور بسمة واحدة، خلفية رمادية فارغة، يتخللها حزن ﻻ تخطئه العين. كان المشهد الكويري في برلين ممتلئا بالحياة ليلا، وبمجرد أن يطفيء “الناي الذهبي” أضواءه المشعة، وتصمت موسيقاه الصاخبة حتى يعود الكل لمنازلهم يعيشون في الخفية حتى يحل المساء من جديد.

ساعدت “الجنس الثالث” على خلق شعور بالإنتماء. أعلنت عن الحفلات والاجتماعات والخدمات الخاصة. انتظر القراء بفارغ الصبر الاصدارات الجديدة. سعت العديد من المقالات العلمية إلى طمأنة القراء بأنهم ليسوا وحدهم. وثقت إحدى المقالات التاريخ الطويل للترانس في العصور القديمة، ووضعت غيرها حجر الأساس للتعبيرات الجنسانية المختلفة.

لم تكن المجلة موجهة فقط لمجتمع الكوير الآخذ في اﻻنتشار، حيث عملت أيضا على تثقيف المغايرين. طالبت المقاﻻت بحماية حقوق الترانس. قدمت قصص الخيال دروسا لآباء وزملاء وجيران الترانس مثل القصة القصيرة “المسترجلة” المنشورة في العدد الأول؛ تحكي القصة عن فتاة بولندية تشبه الصبيان تدعى سِلما بشعر قصير وأياد ضخمة ومظهر يخلو من ملامح اﻷنوثة التقليدية. استمع مهندس مساحة ألماني مقيم في منزل أسرتها اليها بحيادية وهي تحكي حلمها ببناء الجسور، وكان يطلق عليها ممازحا “مسترجلة”. بينما كان والديّ سلما يتوسلان إليها أن تتغير، كان المهندس اﻷلماني يصر على أن بإمكانها أن تكون من تريد. ﻻحقا، بعد سنوات، في ألمانيا، يستقبل المهندس اﻷلماني ضيفا مجهولا من بولندا. “أخيرا حققت سِلما أمنية والديها”، يضحك الزائر، “لقد غيَّرت من نفسها أخيرا”. بعدما تنمروا عليها في المدرسة، واعتُبرت مجرمة وأودعت المصحة، تمكنت سلما من إجراء جراحة لتصبح رجلا استقبله ﻻحقا اﻷلماني في طريقه لدراسة الهندسة في سويسرا. جزء منها فانتازي حالم بمجتمع يوتوبي ليبرالي، وجزء موجه كدرس  للحلفاء الكامنين، كانت القصة واحدة من الكثير من القصص الخيالية المنشورة في المجلة المميزة.

انهارت المجلة في مايو/أيار 1932 بعد صدور خمسة أعداد فقط. شعر المحافظون أن الحريات خطر يهدد الأخلاق العامة. كان يُنظر للمثليين والترانس كمصدر فساد للشباب الصغار ومؤثر سلبي على معدل المواليد. ازدهر مجتمع الكوير إﻻ أن الشرطة احتفظت بقوائم “المنحرفين جنسيا” ومنتهكي القانون الذي حظر اللواط. دعت الجماعات المدعية للنقاء الديني والسياسي واﻷخلاقي لتشديد قوانين الرقابة ومنع المطبوعات ذاتالمحتوى الجنسي. وفي يناير/كانون الثاني 1933 استولى النازيون على السلطة. وفي غضون شهور من تعيين هتلر مستشارا، تم إغلاق العديد من أندية المثليين/ات والمتشبهين وأغلقت المجلات الكويرية وأعدمت من المكاتب كجزء من حملة التطهير التي قادها نظام الرايخ. وفي مايو/أيار من نفس العام، اجتاحت جموع الطلاب النازيين معهد ماغنوس هيرشفيلد لعلم الجنس وبعثروا محتويات المكتبة التي ضمت ما يزيد عن 12,000 مؤلفا، وبمساعدة القوات أحرقوا الكتب في شوارع برلين، وهكذا تم تدمير أرشيف كوير ما قبل الحرب العالمية الثانية. أغلقت مطبعة رادزويت وضاع أرشيفها ولم يتبق سجلات توضح عدد القراء والمشتركين في مجلة الجنس الثالث، ولم يتم التعرف على الكُتاب المساهمين فيها، ﻷن العديد منهم كُتبوا بأسماء مستعارة كهانز هانا بيرج. 

بالرغم من كل ذلك، تظل الأهمية التاريخية لمجلة “الجنس الثالث” واضحة. بنهاية الليلة، أحست هانز هانا بالثقة حين تقرب منها رجل آخر فانساب صوتها بالحديث وعادت البيت تلفها ذارعه. بالنسبة إلى هانز هانا ” كانت إزالة القناع وإظهار الذات الحقيقية أمام أعين البشر أمرا رائعا”. كان ظهورها حديثا وتمكنت من أن تكون ذاتها الحقيقية.  أرسل العديد من القراء قصصهم وتجاربهم الشخصية للمجلة. في العشرينيات، حين ناقش الكوير الظروف الموضوعية ﻹنشاء مجلة، شجع المناصرون فكرة “الظهور” للتصدي للصورة النمطية السيئة للترانس لدى العامة. وبالرجوع لمعدﻻت اﻻنتحار حينها؛ رأوا أن المجلة تحفظ حياة الترانس وتمنح أملا لليائسين والمعزولين. منحت “الجنس الثالث” للترانس أملا في المستقبل ويجب اﻻحتفاظ بها في القائمة الطويلة لتاريخ الترانس الغني.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“مترجم نقلًا عن “باريس ريفيو

أمينة محمد.. مترجمة عابرة جندريا

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: