ترانسات Transat

الجندر جندرنا

تقارير وترجمات تاريخ الترانس

أين كان الترانس في العصور الوسطى؟

ترجمة: باسل إيرين

تحرير: أمينة محمد

من السخافة نوعاً ما الحاجة إلى طرح هذا السؤال والإجابة عليه. هناك أدلة كثيرة ومتزايدة باستمرار على أن العبور الجنسي ليس “أسلوب حياة إختياري” كما يظن البعض، ولكنه جزء من التنوع البيولوجي في الجنس البشري. وفقاً لدراسة أجراها معهد ويليامز عام ٢٠١٦، فإن 0.6% من البالغين في الولايات المتحدة يعرفون عن أنفسهم كعابرين/ـات جنسياً (ترانس). كما أنه ووفقاً لجمعية الإنترسكس في أمريكا الشمالية، 1 من كل 2000 شخص يولدون بنوع من حالات الإنترسكس (الجنس البيني).

نحن نتعلم باستمرار أن الجنس البشري ليس ولم يكن أبداً محصوراً بنوعين من الجنس، الثقافات، الأدمغة، أو حتى نوعين من الأجساد. ورغم أن النسب تبدو ضئيلة، إذا أُسقطناها على مجموع سكان الأرض الحاليين وكل من سبقوهم، يستحق كل من الترانس والإنترسكس الإعتراف بهم كجزء مهم من تاريخ البشرية. في الحقيقة، تزداد هذه النسب كلما سمح المجتمع للمزيد من الأشخاص الترانس والإنترسكس بالظهور بأمان على العلن.

إن الإقرار بوجود الترانس في العصور الوسطى بالنسبة للذين يعتبرون الأمر مجرد “إختيار”، يشبه القول بأن معجبي سلسلة أفلام “حرب النجوم” وجدوا في العصور الوسطى. قد يؤدي ذلك إلى بعض الأسئلة المغلوطة، لكن قد يمكننا تفهمها:

  • كيف يمكن أن يتواجد الترانس دون وجود المصطلحات والتكنولوجيا الموجودة في عصرنا الحالي؟
  • كيف يمكن أن يتواجد الترانس قبل أن يتم إطلاق مصطلح “الترانس” عليهم؟
  • كيف يمكن أن يتواجد الترانس قبل أن يقوم الأطباء باكتشاف حالتهم وتشخيصهم؟
  • كيف يمكن أن يتواجد الترانس قبل تمكنهم من التفاعل فيما بينهم في المساحات العامة؟
  • كيف يمكن أن يتواجد الترانس قبل وجود العلم والتكنولوجيا التي تسمح لهم بالعبور، كالجراحة والعلاج الهرموني؟

طُرِحت حجج مماثلة مراراً وتكراراً ضد التحقق من وجود الهويات الكويرية (لا سيما المثلية) في العصور الوسطى، بزعم أن البحث عن أشخاص كويريين وترانس في الماضي أمر غير مُجدٍ. كانت تنطوي آمالهم على أن المثلية والعبور الجندري ليسا جزءاً من التنوع البشري أو الجندري. يسمح لهم ذلك بتخيل وجود زمن كان فيه “الرجال رجالاً” و “النساء نساءً”، أو ربما تخيل مستقبل مُسِحت فيه الهويات الغير نمطية.

خلافاً لهذه التصورات الرجعية، لن يختفي الترانس، ولا يمكن العودة إلى زمن لم يوجدوا فيه. استناداً إلى الأرقام الواردة في الدراسات أعلاه، يمكن تقدير عدد الترانس والإنترسكس في العصور الوسطى بشكل تقريبي. مثلاً، قام أخصائي في علم سكان أوروبا العصور الوسطى بتقدير وجود 19 مليون نسمة عام 1340 في فرنسا. إذا كانت نسبة الترانس تعادل حوالي 0.6% من البالغين، وشخص من بين كل 2000 شخص هو/هي انترسكس، يمكننا استنتاج وجود حوالي 114,000 ترانس و 9500 حالة انترسكس يعيشون في فرنسا خلال القرن الـ 14.

هذا عدد كبير من الناس. قد يبدو رقماً صغيراً نسبياً، لكنه ليس عديم الأهمية. من المؤكد أنه كان ذو أهمية بالنسبة لتجارب أولئك الأشخاص في الماضي، وهو بالتأكيد مهم بما يكفي لعدم تجاهله في الحاضر.

 

الإنزعاج الجندري في العصور الوسطى

إذاً، كيف يمكن للترانس أن يتواجدوا في زمن يخلو من المصطلحات والتكنولوجيا المتواجدة اليوم والتي تسمح باستيعابهم اجتماعياً؟ تتطلب الإجابة بعض التوضيح لأنها تستلزم معرفة الكثير عن الترانس والنظام اﻻجتماعي في العصور الوسطى.

من الصعب معرفة العالم النفسي الداخلي للأشخاص من خلال نصوص القرون الوسطى. لكن التعريف القصير للإنزعاج الجندري في الدليل التشخيصي واﻹحصائي للإضطرابات النفسية “DSM-5” يصف نمطاً يمكن ملاحظته دون الحاجة للتعمق في الحياة الداخلية لشخص ما:

“يجب أن يكون هناك اختلاف ملحوظ بين الجندر الذي يُعبّر الشخص عن نفسه من خلاله والجندر الذي يقوم الآخرين بتحديده له. ويجب أن يستمر ذلك لمدة لا تقل عن ستة أشهر”.

يكشف هذا التعريف القصير أن الإختلاف يظهر خارجياً أكثر منه داخلياً، وهو في المقام الأول صراع اجتماعي أكثر منه صراعاً نفسياً. من المؤكد أن الصيغة الأطول للتعريف في الـ DSM-5 تتطرق إلى الآثار والأنماط النفسية المختلفة المرتبطة به، لكن الصيغة المختصرة تركز على الصراع بين الفرد والمجتمع. يُحدد المجتمع الجندر للشخص؛ لكنه يتناقض مع الجندر الذي يُعبّر الشخص عن نفسه من خلاله. كما يشدد الـ DSM-5 على وجود اختلاف “ملحوظ”، مما يعني أنه يجب وجود إشارات يمكن أن يراها القارئ (كعلماء النفس أو المؤرخين) كنمط للإنزعاج الجندري. إحدى هذه الحالات من القرون الوسطى في أوروبا هي “ايلينور رايكينير”.

 

Albert_Lynch_-_Jeanne_dArc-detail  

 

الإنزعاج الجندري و”ايلينور رايكينير”

تُظهر محاكمة “الينيور رايكينير” في القرون الوسطى نظاماً قانونياً يحاول مقاضاة شخص يعيش كإمرأة تدعو نفسها “ايلينور”، وتؤدي الجلسة إلى معلومات تقود المحكمة للتعريف عنها كرجل اسمه “جون”. في شهادة هذه المحاكمة التي تمت في لندن في القرن الـ 14، تم إحضار “ايلينور” إلى المحكمة بتهمة سوء السلوك الجنسي، حيث قُبض عليها بسبب عملها في الجنس. وعلى الرغم من أنه غالباً ما كان يتم التساهل مع العاملات بالجنس في ذلك الوقت، إلا أن المشكلة لم تكن العمل بالجنس وإنما فيما إذا كانت قد ارتكبت جريمة “اللواط” أم ﻻ؟

واجهت المحكمة صعوبة في اتخاذ القرار لعدم تمكنها من تحديد ما إذا كانت “ايلينور” امرأة أم رجل. قدمت نفسها أمام المحكمة كإمرأة اسمها “ايلينور”، لكنها اضطرت بعد الإستجواب إلى الإقرار بأنها عاشت سابقاً في لندن كرجل اسمه “جون”. روت قصة عبورها من رجل لإمرأة، وقصة عملها الجديد كخياطة وعاملة جنس، وعن علاقاتها الجنسية مع الرجال والنساء – من نبلاء وراهبات وكهنة – وإعطاء بعضهم لها المال أو الهدايا.

في النهاية، لم يتم تسجيل الحكم. وعلى الرغم من احتواء السجلات على كلا الاسمين، “ايلينور” و”جون”، إلا أنها كُتبت باللغة اللاتينية التي سمحت بالتدوين دون الحاجة لإستعمال الضمائر المتكررة الإستعمال في اللغتين الإنجليزية والفرنسية. يبدو أن المحكمة لم ترغب في اتخاذ قرار بشأن الضمائر ﻷنها لم تستطع تحديد جندر “ايلينور”. وهكذا، وثق التاريخ وجود امرأة ترانس، ووثق أيضاً الإنزعاج الجندري كما جاء تعريفه في الـ DSM-5.

 

 

 

العبور الجنسي في العصور الوسطى

عندما تكون المعاني غامضة، فإن النظر في كيفية تعامل الأشخاص مع بيئتهم يساعد على الفهم. ينطبق ذلك على الترانس في الحاضر والماضي. ورغم أن الترانس قد يفصل بينهم الزمان والمكان واللغة والثقافة، يمكنهم تعلم الكثير من بعضهم البعض من خلال التقنيات المشتركة بينهم. سواءً كانوا يصنفون أنفسهم كـ”ترانس”أو “لا ثنائي/ة الجندر” أو غيرها من الهويات، يمكنهم تعلم تقنيات العبور الجنسي من بعضهم. إذا تتبعنا تاريخ هذه التقنيات، سنتمكن من رؤية تاريخ العبور الجنسي دون الحاجة إلى معرفة المصطلح الذي استخدمه الأشخاص.

الملابس هي إحدى الطرق التي تسهل العبور الجندري في الحاضر والماضي، فهي محددة جندريا في مجتمعنا كما كانت في الماضي. مثلاً، اعتاد رجال العصور الوسطى ارتداء الدرع والسيف للتعبير عن جندرهم اجتماعياً وجسدياً. سمح لهم ذلك القيام بأعمال خاصة بالرجال كالمبارزة. يتجلى ذلك كمثال في قصة “رومان دي سايلنس” من العصور الوسطى. تروي القصة حكاية شخصية بطولية ولد وحُدد جنسه كأنثى بسبب جسده، لكنه قرر أن يعيش كرجل بعد استجابته لنداء العقل. نشأ بعد ذلك كفارس وشاعر يخوض مغامرات بطولية عديدة. يكفينا معرفة أن ارتداء “دي سايلنس” لملابس الرجال للتعبير عن هويته كرجل كان جزءاً أساسياً من القصة.

Silence-06-0390m
سايلنس في طفولته بين إثنين من الشعراء – 1257

 

رهبان ترانس في العصور الوسطى

على نحو مماثل، لجأ البعض في العصور الوسطى إلى العادات – كعادات الرهبان والراهبات – لتغيير مظهر جسدهم/ن (كتغطية الجسد) وممارسة عادات اجتماعية (كالتعفف). مثال من التاريخ لاستخدام هذه العادات في العبور الجندري هي حياة الراهب “مارينوس”. “مارينوس” من الشخصيات المسيحية المعروفة. طبقاً للتراث المتناقل من قصص وآثار مقدسة، 

St-Marinos-the-Monk-with-Child
الراهب مارينيوس يحمل طفلا

سُجل “مارينوس” كأنثى عند الولادة، لكنه قرر الذهاب إلى دير ليعيش كراهب. حذره والده من أن جسده وأعضاءه التناسلية ستتسبب له بالمشاكل، تعامل “مارينوس” مع الأمر بتغطية ملامح جسده بلباس الرهبان. بالإضافة إلى ذلك، توجب على الرهبان التعفف وترك العلاقات الجنسية، فلما قد يهتم أحدهم بما يخفي تحت ردائه؟ المضحك في الأمر أن “مارينوس” طرد من الدير لفترة، ليس بسبب أعضائه (التي تم التعرف عليها بعد موته فقط)، ولكن بسبب اتهامه أن فتاة حملت من علاقة معه. بعد ولادة الطفل، عُهد بتربيته ل”مارينوس” باعتباره ابنه. بعد هذا الإتهام وإعطائه الطفل، إذا كان لباس “مارينوس” مجرد تنكر لغاية ما، فلم يعد لصالح “مارينوس”. إذا لم تكن هويته كراهب، و كرجل، مهمة بالنسبة إليه، لقام ببساطة بخلع اللباس والكشف عن جسده لإثبات براءته. لكن “مارينوس” تمسك بهويته كراهب ورجل. أخذ دور الأب بالإضافة إلى ذلك حتى سُمِح له بالعودة إلى الدير مع ابنه المتبنى. في النهاية، عاش “مارينوس” كرجل وراهب وأب حتى موته بإستخدام اللباس الذي سمح له بالعبور، ولم يتخلى عنه حتى بعد أن سبب له الخطر.

 

الترانسفوبيا في العصور الوسطى

حين يقدم لنا التاريخ القليل من الأصوات المهمشة، يجب ان نسأل عن السبب؟ ينطبق ذلك على الترانس في العصور الوسطى. نتمنى أحياناً أن يؤكد لنا المؤرخون ما نريد معرفته عن حياة الترانس في العصور الوسطى. رغم أن الرد على رغباتنا يكون بالصمت أو بتغيير الحقائق، يمكننا النظر الى العوامل الإجتماعية التي تفرض هذا الصمت. يمكننا أن نسأل كيف كانت تبدو الترانسفوبيا (الكراهية الموجهة ضد الترانس) في التاريخ؟ وكيف ساهم المؤرخون الكارهون في إخفاء أصوات الترانس؟

الحقيقة المؤلمة هي إمكانية تمييز وجود الترانس بسبب وجود الترانسفوبيا. على سبيل المثال، “جان دارك” التي اشتهرت بارتداء ملابس الرجال والمحاربة ضد الإنجليز في حرب الـ100 عام. ألقي القبض عليها وتم استجوابها وقتلها. قبض 

الإنجليز على “جان” لأنها محاربة وقائدة للقوات الفرنسية، إلا أنها لم تُقتل لهذا السبب. ركزت محاكمة “جان” أكثر على مظهرها بدلاً من قتالها ضد الإنجليز. زعم الإنجليز أن ارتداء المرأة لباس الرجال هو “هرطقة”. اتهموا “جان” أنها ساحرة وكافرة لأن مظهرها الرجولي تحدى تفسيرهم المتحيز للكتاب المقدس. بعد الكثير من الجدل، وبعد رفضها التخلي عن ارتداء ملابس الرجال – أو الإعتراف بالإدانة لإرتداء ملابس الرجال – حُرقت “جان” حتى الموت.

Joan_of_Arc_miniature_graded
جان دارك

 

يمكننا الإستنتاج أن “جان” لم يكن لديها الحرية للتحدث بصراحة عن الجندر والهوية. ركزت المحاكمة على إدانتها بالكفر. سواء كانت “جان” ترانس أم لا، من الواضح أن الترانسفوبيا كانت محور محاكمتها. الجدل القائم لدى المحكمة كان أن الشخص لا يمكنه ولا يجب أن يكون ترانس. رفضت “جان” الإستسلام للترانسفوبيا الإنجليزية، وقُتلت لهذا السبب. بغض النظر عن رأي المؤرخين المعاصرين في هوية “جان”، يمكننا الإستدلال من قصتها على أن القضاة في العصور الوسطى اعتبروا “جان” ترانس لدرجة كافية لقتلها.

 

 

الخلاصة

لمعظم الناس، الإجابة المختصرة للسؤال عن تواجد الترانس قديماً كافية لتأكيد أو نفي تحيزهم المسبق ضد الترانس في الحاضر. للذين يعتقدون أن العبور الجنسي مجرد نمط حياة حديث، أي إجابة غير “لا” سيتم رفضها باعتبارها “أجندات خاصة”. للذين يُقِرُّون أن الأشخاص الترانس جزء أساسي من التنوع البشري، الإجابة بـ”نعم” واضحة تلقائياً. 

ومع ذلك، فإن الجواب الأطول الذي يركز على “كيف” عاش الترانس قديماً، مشوق أكثر من “هل” وجدوا. لأن جزء الـ”كيف” أوسع وأكثر تنوعاً تماماً مثل حياة الترانس اليوم. إنه مليء بعوامل وتقاليد اجتماعية تؤثر على الثقافة اﻹنسانية في الحاضر بطرق مختلفة وﻻ تزال تشكّل انقساماً حاداً بين الذات والمجتمع، بين الجسد والثقافة، وتفتح مزيداً من اﻵفاق للنقاش والأفكار الفلسفية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر باللغة الإنجليزية

باسل إيرين.. مترجم وعابر جندريًا

 

 

تعليق واحد

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: